مقالات

التراث الفقهي الموروث والجناية على الإسلام: الإمام محمد بن إدريس الشافعي نموذجاً،،

أ. د. عامر عباس حمد [*]

أ.د. عامر عباس حمد

أنتج الإستبداد السياسي والديني، الناشئ عن الجهل بشكل عام، وسوء التوظيف بشكل خاص، واقعاً شديد البؤس والإنحطاط على جميع المستويات، وقد كان مُؤذِناً فعلاً بخراب العمران. ولقد أدى ذلك الوضع لخلق مناخ مستدام من الإرهاب الفكري المعنوي والمادي المباشر، وهو مناخ ثقيل الوطأة، أدى إما لإحجام غالب المبدعين من المفكرين والفلاسفة والفقهاء، عن الإسهام في الشأن العام بما يخالف السائد المتبع والمرضي عنه، من قبل كل السلطات المشار إليها آنفاً، وهو ما أفسح المجال واسعاً لقوى الظلام والتجهيل لتسيد الشأن العام، أو ملاحقة من تجرأ على نقد أو نقض السائد من الاغاليط والخرافات والأسطرة، وذلك بتهم التكفير والزندقة والهرطقة والتجديف والطعن في الدين أو الرسول أو الصحابة… إلخ، وفق ما هو شائع وسائد في مجتمعات الأمة الإسلامية المنكوبة.

بدأ ذلك الوضع الشائه والخطر في التبلور منذ أحداث الفتنة الكبرى، التي أدت لمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث إستخدمه من أُصطُلح على تسميتهم بالخوارج مروراً بالدولة الاموية، وإستمر حتى أسس له أبو حامد الغزالي الأرضية المنهجية والفكرية في كتابه،، تهافت الفلاسفة،، والذي هاجم فيه الفلسفة وكفّر فيه الفلاسفة في ما رآه هو مخالفاً للدين ولم تفلح المحاولات اللاحقة على يد المستنيرين من عظماء العقلانيين، وعلى رأسهم أبو الوليد بن رشد والذي رد على الغزالي بكتابه “تهافت التهافت”. لم تفلح محاولاتهم في وقف مد موجات التكفير وقمع الحريات العامة والفكرية في عالمنا الإسلامي، لتصل الأمور ذروتها على يد شيوخ الدم والتكفير والإرهاب لاحقاً، كإبن تيمية وإبن الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب وصولاً لحسن البنا وسيد قطب والقرضاوي، ومن ثم شمل ذلك كل الجماعات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بمختلف مسمياتهم وتنوع وتعدد تنظيماتهم.. إلخ.

لقد ساهمت عوامل عديدة وشخصيات مختلفة في إنتاج هذا الوضع المعقد، يغيب إدراك هذه العوامل عن الغالبية الساحقة من شعوب المنطقة، بينما يُنظر لعدد من تلك الشخصيات بإعتبارهم أئمة كبار وفقهاء غير منظور شبيههم ويحظون بقبول وتأييد وإتِّباع كبيرين بما عظّم من تأثيرهم شديد السوء على قضية نهضة وتحضر الأمة الإسلامية. ولعل الإمام الثالث لدى الطائفة السنية، محمد بن إدريس الشافعي، نموذجاً ممتازاً لما نود التدليل عليه هنا، وبناء على ذلك فلنرى معاً من هو الشافعي وما جنايته الكبرى على الإسلام وعلى المسلمين.

هو محمد بن إدريس الشافعي المولود بغزة سنة 150هجرية، وهو نفس العام الذي توفي به الإمام الأكبر أبوحنيفة النعمان، صاحب أول المذاهب الأربعة وأوسعها إنتشاراً بينما الشافعي يمثل المذهب الثالث. والمذهب الحنفي هو الأكثر عقلانية، والأرحب كنفاً وأريحية، في ما يتعلق بالأحكام لإعتماده بشكل أساسي على المصدر الأول وهو القرآن، ثم السنة العملية للرسول الكريم، ثم الإجتهاد العقلي دون كثير تقيد بما هو دون ذلك، ولذلك يعرف بإسم مدرسة الرأي أو العقل – وهو عكس ما عمل به المذهب الشافعي المعروف بمدرسة النصّ أو النقل كما سنرى – إلا أن الإحتفاء بالشافعي وسط الأوساط الرسمية للسلطة كان أكبر، بإعتباره يمثل نقاء الدم العربي الهاشمي وبلاغة اللسان العربي الفصيح، مع تقييده للعقل ونفيه للرأي، وفي ذلك خدمة كبرى للاستبداد في السيطرة والضبط – فالشافعي حسب ما روي عنه ينتهي نسبه إلى قريش، وإلى عبد المطلب لذا قيل عنه: إبن عم رسول الله – في مقابل عجمة أبو حنيفة الذى كان من ضمن الموالي، بحيث تم إعتماد الشافعي بإعتباره مؤسساً للايديولوجية الرسمية للمدونة الفقهية (يُعدُ مؤسس علم أصول الفقه، وذلك بما وضعه في كتابه الأشهر “الرسالة” وذهب البعض لأبعد من ذاك بجعله مؤسساً أيضاً لعلم الحديث). وهي الأيديولوجية التي أحكمت سيطرتها على التشريع الإسلامي حتى الراهن، رغم تصادمها مع كثير من أصول الدين وصريح القرآن وتناقضها معه، وهو مما يثير كثير من الدهشة والإستغراب والتساؤل.

ففي حين نجد، مثلاً، أن كلاً من الإمامين أبوحنيفة النعمان ومالك بن أنس، كان  يعتمدان وبشكل أساسي على القرآن والسنة العملية، وكان أبوحنيفة يستبعد الحديث ويعتمد على الرأي، بينما كان مالك يقدم عمل أهل المدينة على الحديث إن تعارض معه (على الرغم من قربهما من العهد النبوي قياساً بمن أتى بعدهم)، فإن الإمام الشافعي قد قام بوضع منظومة أخرى مختلفة تماماً، حيث أضاف وأدخل لمصادر التشريع الأساسية الأولية مصادر أخرى تمثلت في :

 – الوحي الثاني( الأحاديث).

 – القياس.

 – الإجماع.

 – الناسخ والمنسوخ.

واعتبرهم من المصادر الأساسية للتشريع، والتي لا ينبغي الخروج عنها بتاتاً..! وبهذا التأسيس المنهجي، فتح الشافعي الباب واسعاً أمام إلغاء ومصادرة أحكام واضحة وصريحة في القرآن الكريم! أو جعل الحديث حكماً على القرآن الكريم، أو إلغاء دور العقل تماماً في العملية الإجتهادية، أو تقديس وتأبيد بعض الآراء والاجتهادات الخاصة بالبشر والمحكومة بقصورهم البشري ونطاقهم الزمكاني!  أو تكفير كل من خالف، أو حاول مخالفة، أو رفض، إعتماد بعض هذه المصادر عبر اللجوء للمصدرين الأولين الأساسيين، وهما القرآن الكريم والسنة العملية وهذا هو الأخطر على الإطلاق، في ما يلي جناية الشافعي على الدين وعلى المتدينين، حيث سادت عبارة تحولت  لقاعدة ألا وهي: ما هو معلوم من الدين بالضرورة..

إن الوحي الأولى والأساسي المعترف به والمُجمع عليه، باعتباره قطعي الثبوت من كافة المسلمين، بجميع طوائفهم وإختلاف مذاهبهم، وتباينها وتناقضها وتصارعها، هو القرآن الكريم وحده ويليه في الترتيب السنة العملية للرسول الكريم، وهي التي نقلت إلينا بالتواتر العملي دون خلاف أو إختلاف، على مر العصور وهذين المصدرين هما بالتحديد اللذين عناهما الرسول وحددهما بقوله الواضح الجلي: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي). وقد ظلا هما مصدري التشريع الأساسيين المجمع عليهما، حتى ظهور محمد بن إدريس الشافعي، والذي أتى بفرية الوحي الثاني وهو يقصد به الأحاديث النبوية، أو ما أصطلح على تسميته بالسنة القولية حيث رأى،، مخطئاً،، أن الرسول الكريم لم يؤتَ القرآن فقط، وإنما آُوتيّ معه السبع المثاني، وآُوتيّ معه الحكمة – وهذا صحيح من حيث المبدأ بنص ما ذُكر في العديد من سور القرآن الكريم كالبقرة وآل عمران والحجر والجمعة .. إلخ – ولكن من أين للشافعي الجزم بأن ذلك يمثل وحياً ثانياً إلى جانب القرآن الكريم؟ ومن أين له أن المقصود بالسبع المثاني وبالحكمة هو ما أصطلح على تسميته لاحقاً بالحديث النبوي؟ ! لأن التكلم عن الحديث يفتح باباً واسعاً من الجدل والخلاف والإختلاف بين المسلمين، حول حجيتها ومصدريتها وثبوتها وتاريخ تدوينها وكيفيته ومعايير الترجيح فيها، فضلاً عما لحقها من الوضع والدس والكذب والانتحال والتصحيف لأسبابٍ ودوافعٍ شتى، منها الصراع السياسي ومنها الكيد للإسلام أو توهم نصرته، ومنها ما لحقها من الاسرائيليات وأساطير النصارى وخرافات الزرادشتية وغيرهم، من روايات الأمم والأديان السابقة، مما لا يعد ولا يحصى فضلاً عن إضطراب المتون وإختلالها…إلخ.

لقد جعل الشافعي من ذلك، بضربة لازب، وحياً ثانياً معصوماً وواجب الإتباع، كما المصدر الأول الأصلي القرآن الكريم وفي مرتبة مساوية له، بل تعلوه أحياناً عند الأخذ في الاعتبار أن الحديث له أن يلغي الحكم الوارد في القرآن الكريم! بحيث صار الحديث،، المشكوك فيه أصلاً وغير المقطوع بصحته قولاً واحداً،، حاكماً على القرآن الكريم، ويالها من مفارقة جد خطيرة ومدمرة وقاضية. ثم لم يكتفِ الشافعي بذلك وحسب، فأضاف (الإجماع)، والمقصود به هو إجماع الصحابة على أمر من الأمور وهو ما صار عند الشافعي،، ومن خلفه،، مقطوعاً بصحته وإتّباعه. ولكن فيم أجمع الصحابة والتابعين على أمر بخلاف قطعية ثبوت القرآن والسنة العملية؟! والإجماع بخلاف ذلك ممتنع، بل حتى القرآن نجدهم قد تفرقوا في تأويله وتفسيره إلا قليلاً، فضلاً عما إنتهت إليه بعض خلافاتهم لسل السيوف من أغمادها وخوض المعارك والحروب الطاحنة!

ثم ضيّق الشافعي الدائرة أكثر بالقول (بالقياس)، في حال عدم توفر الحكم في كلاً من الوحي الأول أو الثاني أو الإجماع، وهو ما يعني قياس الواقعة أو الحدث المراد الحكم فيه في حال الاشتراك في العلة، على نظير له أو مشابه مما يمكن أن يكون قد وقع في القرن الأول المقطوع بخيريته، حسب روايات الحديث المزعومة، وهو ما يعرف بقياس الشاهد على الغائب. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو، وبإفتراض توفر الإجماع أو إمكانية القياس حد التطابق بين الوقائع، فهل ما صح وكان فعالاً في مواجهة ومعالجة الوضع الأول، يظل صحيحاً وفعالاً أيضاً في مواجهة وقائع أخرى في أزمنة مختلفة وبيئات مغايرة؟!

إن ما إنتهى إليه الأمر عملياً بعد الشافعي، هو إزاحة العقل واستبعاده تماماً من ساحة الفعل الحر غير المقيد، إلا بقطعيات ومحرمات المصدرين الأولين، وهي محدودة جداً وما استتبع ذلك من غلق وقفل لباب الإجتهاد بشكل كامل ومحكم، وهو ما أدى لسكون وجمود وخمول العقل والمجتمع، وإلغاء الحاسة النقدية (إذ لا جرأة بتاتاً على نقد المقدس)، ومن ثم فُتِح الباب واسعاً لسيادة الخرافة والأسطرة والشعوذة، وفي أحسن الأحوال إجترار القديم البالي غير المفيد. كما أدى ذلك لإضفاء القداسة على ما هو غير مقدس، فالصحابة والتابعين بشر يصيبون ويخطئون وليس لآرائهم ولا أحكامهم صفة التأبيد، وكيف يكون ذلك إذا كانت أقوال وأحكام النبي الكريم نفسه في ما سوى صفته كرسول لا تأخذ صفة التأبيد!

إن أخطر ما تمخض عن عمل الشافعي في البيئة الإسلامية، هو بإختصار: تأسيس دين آخر موازي لدين الرسول الموحى به من الله تعالى، دين له أحكام وتقريرات أُستُمدت من الأعراف والتقاليد والذهنية السائدة وليس من صريح الأحكام والقواعد المنصوص عليها في الدين الأصلي في ينابيعه الأولى الصافية.. هذا الدين هو الذي وافق هوى السلطات السياسية الفاسدة والمستبدة من الطغاة والمجرمين والفقهية العاطلة المفسدة من فقهاء السلطة وأصحاب المصالح الخبيثة بما وفره لهم من أرضية صالحة وذخيرة وافرة من التقريرات الدينية القابلة لسوء التوظيف، وهو الذي ساد وأصبحت له اليد العليا بفضل آليات السلطة من ذهب المعز وسيفه وبفضل إحتكار المنابر والإعلام وبفضل تكفير الخصوم والمختلفين وإرهابهم وتقتيلهم وتشريدهم وحرق مؤلفاتهم ومصادرة حقوقهم في التعبير وفي الإجتهاد وفي الاعتماد على العقل وفي رفض كل ما هو زائف ومحرف وزائد على مصادر الأحكام والتشريع الأصلية.

أما إذا أخذنا الناسخ والمنسوخ فهو لوحده جناية كبرى ما بعدها جناية فقد رزء به الإسلام بما لم يحدث له بغيره، وبحيث صار السيف المسلط على رقبة كل من رغب في تدبر وفهم القرآن الكريم هو: إن لم تكن تعلم الناسخ والمنسوخ فقد هلكت وأهلكت ! وفي حقيقة الحال أنهم هم من أهلك الإسلام والمسلمين، وهو أمر قد نتج عن سوء فهم رهيب وخلط شنيع ما بين لفظة الآية (المعجزة) والآية (مقطع من مقاطع السور القرآنية) وذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ألم تعلم بأن الله على كل شئ قدير (106). حيث أعُتمد من ذلك، أن بعض آيات القرآن تنسخ، بمعنى تلغي أو تُعدِل آيات أخرى في الأحكام، أو في الإلغاء من المصحف جملةً!

لقد ترتب على ما قام به الشافعي جملة من النتائج، التي طَبَّعَت الإسلام والمجتمعات الإسلامية بأوضاع في غاية الخطورة، كما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

  1. فتح الباب للحديث النبوي وإعطائه صفة التشريع بإعتباره وحياً كالقرآن سواء بسواء – بل ومنحه الحاكمية على القرآن في بعض الأحيان – قد فتح أبواباً لم تغلق من الكذب والدس والوضع والتحريف فيها بما أفاد ومكّن للطغاة والفاسدين في جميع المجالات من إيجاد التبريرات الشرعية والاسانيد المقدسة لفسادهم وجرائمهم وطغيانهم، وهو أمر ظل مهيمناً حتى الراهن المعاصر.
  2. القول بالإجماع والقياس أدى للجمود والتكلس والتخلف عن إيقاع العصور المتوالية دوماً.
  3. إعلاء شأن الحديث وإعتباره مصدراً للتشريع أدى لمخالفة العديد من أحكام وقيم القرآن الكريم ونتج عن ذلك مظالم عديدة ونتائج مجتمعية خطيرة.
  4. القول بالناسخوالمنسوخ أدى للعبث بالقرآن الكريم و أحكامه وأصبح مدخلاً للطعن فيه من قبل خصومه وأعدائه بقابليته للحذف والإضافة وعدم الشمول والإحاطة والنقص وعدم الكمال الذي لا يليق بالاله الخالق وهو ما يعرف بالبداء.

ولو حاولنا أخذ بعض النماذج العملية لما ترتب على أعلاه، فيمكن الإشارة للآتي :

  • في باب الحديث لشرعنة القبلية والعنصرية كما في: إن الأئمة من قريش. ولتمكينه للإستبداد والفساد بتحريم الخروج على الحاكم الفاسد، وإن إغتصب المال وإن جلد الظهر. كما أسس لوهم الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية كما في الإشارة للخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.
  • وفي القياس إنفتح باب لزيادة المحرمات بلا سقف، رغم أن المحرمات الشرعية المنصوص عليها تبلغ 14 فقط بالعدد، فتبارى الفقهاء والسلاطين في التحريم و المنع حتى صار كل أمر المسلم حراماً Yلا قليلاً.
  • الناسخ والمنسوخ أدى لإستبدال بعض العقوبات الحدية التي خففت عن شريعة موسى بأخرى، أشد وأكثر غلظة كالرجم للزاني المحصن، بدلاً عن الجلد وكالقتل للردة بدلاً عن إيكال أمره إلى خالقه. كما تم نفى مبدأ حرية الضمير تماماً. كما ألغت آية واحدة أطلق عليها آية السيف من سورة التوبة كل آيات الرحمة والحريات في كتاب الله مجتمعاً وبحيث صار الإكراه في الدين حكماً شرعياً! وبحيث فتحت كل أبواب التطرف والإرهاب والإرعاب.
  • أدخل الشافعي تعديلات جذرية على أحكام الميراث وترتب على ذلك مظالم عديدة، فقد أدخل الأعمام والعمات في إرث بنات المتوفى غير المنجب للذكر، وفي ذلك مخالفة صريحة للقرآن الكريم. كما ألغى 10 آيات قرآنية عن حكم الوصية بحديث قال أنه سمعه من أهل المغازي: لا وصية لوارث! كذلك حرم أبناء المتوفى قبل أبيه (حتى أصبح يعرف في ثقافتنا بالفطيس) من تركة جدهم، في مناهضة ومقاومة لحكمة القواعد المنظمة لعملية التوريث في كتاب الله … إلخ وغير ذلك مما لا حاجة لعده وإحصائه.

من الواضح، إذاً، تأثير البيئة والثقافة المجتمعية السائدة، سواء تجاه المرأة أو تجاه الآخر المختلف، أو مناخ الإستبداد المستند على العنف والإرهاب، في فكر محمد بن إدريس الشافعي، وليس ذلك بمستغرب، فهي عوامل لها سطوتها. ولعلنا هنا نشير لاستغراب الصحابة، دون إستثناء يذكر، لقضية توريث المرأة من حيث المبدأ، ورفضهم ومقاومتهم اللاشعورية لتلك الأحكام لأول نزولها، فما فتئ الواحد منهم يذهب ليعود ويكرر السؤال على الرسول عن آية المواريث: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟! فلا يزيد عليه الصلاة والسلام على الإجابة بـ: نعم هكذا أنزلت. وفي ذلك دلالة على سطوة الأعراف والتقاليد والثقافة السائدة، إذ الرسول بينهم والوحي بين يديه وتأبى عقولهم.

عليه يحق لنا أن نسأل: هل كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي يعلم بأن بعض ما قام به يناقض صريح القرآن؟ وهل كان يعلم بأن عمله هذا سيتحول إلى دين آخر موازٍ، تكون له السيطرة والغلبة، بحيث ينجح في إزاحة كثير من قواعد الدين الأصلي والحقيقي؟ وإن كان يعلم فلم؟ ولمصلحة من؟ وهل ما فعله كان بأمر السلطة أم محض إجتهاد فردي؟ وهل أدى غياب، أو بالأحرى تغييب العقل النقدي في الفضاء والمناخ الإسلامي، لتأليه وتقديس الأشخاص وبالتالي الإذعان والخضوع لهم، والقبول بكل ما ورد منهم دون نظر وإن خالف الدين، وإن صادم القرآن؟! والإجابة على هذه الأسئلة أو بعضها، ربما يزيح الغموض عن الأسباب والعوامل التي أقعدت وأخلدت بنا إلى الأرض.

 ولعلى أشير لحادثتين منفصلتين تؤكدان أهمية وخطورة ذلك، فبينما كنت أتداخل في الوسائط عن بعض المواضيع الفكرية المتعلقة بالتراث وبعض رموزه وشخوصه، إذ إنتفض الجميع تقريباً منددين ورافضين، وما كنت لاتوقف في ذلك كثيراً، فهم عندي معذورون، ولكني أُجبرتُ على التوقف حين وجدت البعض منهم من حملة الدكتوراة وأصحاب المناصب الأكاديمية الرفيعة في الجامعات، داخل وخارج السودان، فعلى سبيل المثال فقد طلب مني عميد كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بجامعة دنقلا/رومي البكري (الأسبق) الدكتور الوليد تاج السر هاشم عدم التعرض “للمقدسات”! ودكتور آخر هو من مسئولي حزب المؤتمر الشعبي بدولة قطر، هو الدكتور زكريا محمد السيد، أخرجني من الملة جملة ًوسارع هو بالخروج ومغادرة الواتساب خوفاً من أن تحل به اللعنة! وثالثة نائبة عمادة الدراسات العليا في إحدى الجامعات (رفضت التعريف باسمها بعد الفضيحة التي نبهنا لها (ذكّرتنا مشكورة بأن الله سبحانه وتعالى إنما “يخاف” من عباده العلماء)! وبعض زملاء العمل ممن تزاملنا سنين عدداً في مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث أهدروا دمنا..! لقد صار بعض الأشخاص والفقهاء من ثوابت الدين ومن مقدسات المسلمين لدى نخبة مجتمعاتهم فكيف بعوامهم وعامتهم؟!

المثل الثاني، حدث قبل أعوام في ما عرف بقضية الدكتور المفكر نصر حامد أبو زيد في مصر، إذ وحينما إنتبه المفكر نصر لخطورة ما قام به الشافعي في تاريخنا العام، وقام بتأليف كتابه الشهير (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية) تم تكفيره وتطليقه من زوجته وإهدار دمه، عبر الحكم بردته بحكم قضائي، ومن على منابر المساجد بتحريض من البروفيسور عبد الصبور شاهين! مما دعى مملكة هولندا لمنحه اللجوء لأراضيها واضطراره للإقامة بها لحين وفاته، وكثيراً ما حدث مثل ذاك في تاريخنا القديم والمعاصر.

نحتاج إذاً لكثيرٍ من العمل الجاد الدؤوب في مجال التنوير والتوعية وعقلنة التراث بجميع جوانبه، ما تعلق منه بكتب الحديث أو التفاسير أو التأريخ أو مدونات الفقه، دون خوف أو وجل أو قداسة مزعومة ومتوهمة، لما لا صلة له بثوابت ومقدسات الدين وقطعياته الصحيحة والمحددة، التي ولا شك لا مساس بها البتة. إن فعلنا ذلك نجحنا وأفلحنا وتقدمنا خطوة إلى الأمام، وإن عجزنا وجبُنا إستدام تخلفنا وتراجعنا عن ركب الحياة ومسيرة الحضارة. نقول ذلك لأنه لا يخلو منبر من منابر التحدث عن الإسلام، سواء في المساجد أو خارجها، من إحدى جنايات الشافعي أو كلها مجتمعة! ولا يخلو يوم بسبب جناية التراث، من ملحدين يخرجون عما يتوهمون، أنه صحيح الدين وما هو في حقيقته كذلك.

[*] وزارة التعليم العالي والبحث، جمهورية السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى