الذائقة الإبداعية في الشعر بين أبوة النص ومبدعيه
علي الحضرمي
من خلال قراءاتي المتواضعة لبعض الدراسات والبحوث النقدية التحليلية، وبعض النصوص الأدبية، وتذوقي لها، وممارستي للكتابة حالياً في بداية تكون مشروعاتي المبدئية التي أرجو تحقق حضورها وخروجها إلى النور وترقيتها بتجارب وأعمال مسؤولة، تقوم بمهمتها، وتضيف جديداً، أخلص إلى الاجتهاد بالقول: إن هنالك نوعين من الذائقة والتذوق الفني في هذا المجال هما:
الأولى: الذائقة الأدبية وهي المتقدمة والسابقة على النوع الآخر منها وهي ذائقة المبدع الأول، أو ذائقة الإنتاج الأول، أو الذائقة الأدبية الإبداعية للمؤلف الأصلي، وتتمثل في الملامح التالية:
أولاً: الرؤية المعنوية للفكرة قبل خروجها إلى الوجود، ومدى اعتمالها وتمكنها في نفس المبدع.
ثانياً: اختيار الألفاظ بطريقة تلقائية وعفوية وحسن، بشكل مبدع متميز، هذا الاختيار التلقائي، يميز المؤلف عن غيره، ويكسبه السمة الإبداعية الأدبية الفنية، يستحق بتمكنه منها، واتصافه بها أن يطلق عليه مصطلح (المبدع)، وتكون له مخصصاته من البحث والدراسة والتحليل، والأحكام النقدية البناءة، المعنى نفسه بلفظ آخر، أن عليه أن يضيف جديداً إلى الساحة من خلال إبداعه ليستحق عمله النظر إليه بتقدير، من خلال النظر فيه بعين الدراسة والتنظير النقدي، والتحليل الفني، ويستحق أن يكون قدوة أدبية للشروع والانطلاق المستقل في مراحل نموه وتطوره المستقلة والخاصة.
ثالثاً: الحلة الفنية التي أظهر من خلالها المبدع فكرته متشبعة بمشاعره وآرائه وتفاعلاته النفسية والإنسانية، لتخرج إلى المتلقين، للتقييم والعرض الفني، ومعرفة مدى نسبة قبولها، أو حتى الحكم عليها بالرفض، أو أن تكون في مستوى لا يقبل فنياً وفق معايير مجال التقييم التي دخلت فيه.
رابعاً: الأدوات الفنية المستخدمة في الإنتاج، ومكونات العمل اللازمة من أساليب وصور، وألفاظ، وخيال، وغيرها.
والنوع الثاني من الذائقة، هي الذائقة النقدية المعيارية، الوازنة والموازنة للعمل بواسطة ميزان إنتاجه للمرة الثانية بشكل جديد، وتفكيك وتجميع نثري رؤيوي، باستخدام أدوات النقد البناء، وحرفية الناقد المتمرس، المتخصص والمثقف ثقافة تخصصية ومعرفية عامة عالية، تؤهله ليكون أهلاً لإنتاج العمل وإبداعه من جديد، وتتمثل هذه الأخيرة في مدى امتهانه لسبر أغوار النصوص، لاصطياد دررها، والكشف عن براهينها الأدبية وقيمها الفنية العالية أو عن درجة مستواها الفني، وعرض هذه البراهين على طاولة النقاش والحوار التحليلي لإعادة صنعه وإنتاجه ثالثة ورابعة.. وهلم جراً، ولتقييمها حق التقييم الفني، وإعطائها قيمتها الحقيقية، بعيداً عن الزيف والمجاملة، والإعلاء والإصغار، وتحديد وزنها بين سلع الأدب المحلي والعربي (إن أجيز لنا التعبير)، ويمكن الخروج بها إلى العالمية إذا غلا ثمنها، وعلا شأنها بين مزايديها، من خلال التوصية بترجمتها إلى لغات أخرى، وتسويقها عالمياً.
وعند تركيزنا بالنظر باعتبارنا قارئين ومختصين بالتحليل والنقد في النصوص الأدبية العمانية لتبين الذائقة فيها نجد أن كثيراً من أعمالنا الأدبية بفخر تحظى بكثير من القيم الفنية والجمالية، سواءً كان ذلك في نصوص المحترفين أو الموهوبين أو الهاوين، مع اختلاف مستوياتهم الفنية، ونجد لدى مبدعينا حرصاً على الانتشار الأدبي والثقافي، والفني، ليس على أساس هويتهم الاجتماعية الجغرافية والسياسية، إنما على أساس وشرف هويتهم وانتمائهم الثقافي، والسير على خطا الكبار في ركب الانتشار الثقافي، والمساهمة فيه، وطبع البصمة العمانية على سفره، تشريفاً للنفس والانتماء والهوية، والمجال الإبداعي.
فهل الذائقة هي التي تتحكم بالمنهج المتبع في تحليل النص الأدبي، أم المنهج يتحكم فيها ويحددها؟ أم هما معاً يشكلان رؤيةً وتطبيقاً، ويعملان متحدين متلازمين أياً كان نوع المنهج المتبع، ونحن نرقى بالإنتاج إن وجدت ذائقة عليا لدى منتج النص للمرة الثانية؟
إن الإجابة بين ثنايا هذا التساؤل نفسه، ولا مبرر للبحث عنها خارجه، فمن خلال تحليل نصوص الأدب العماني بالاشتغال عليها بواسطة المناهج النقدية التحليلية المختلفة، تتبادر إلى ذهني مجموعة تساؤلات، تتطلب إجابات ذات نفع وفائدة ورجع علمي وأدبي، منها:
أولاً: هل يختلف الاشتغال على النصوص الأدبية العمانية حديثة المظهر والثوب العصري (القصيدة الحرة وقصيدة النثر) في طرائقه وأساليبه ومعاييره وتحليلاته، إلى أن نصل إلى نتائجه، عن طبيعة ومعايير الاشتغال على نصوص أخرى من إنتاج عماني ولكنها تنتمي إلى العهد القديم ما يسمى (الشعر التقليدي)، الذي ينبغي ألا ننكره، أو نطعن فيه أياً كان وجه الطعن هذا كما فعل العديد من المفكرين الكبار، وبعض أعلام الشعر الحديث كذلك تجاه الإرث العربي؟
والأهلية عندنا يجب أن تكون أن علينا أن نجل هذا الإرث، ونحلله، ونبين مواطن الجمال فيه، ونستفيد من تميزه وفرادته، ليس لدرجة التقديس بالطبع، فالتقديس للقدسي الإلهي فقط، ولكن هو تراث أصيل، وكائن وجودي يعيش في ذاكرتنا، ومتعايش مع واقعنا، وكثير من مبدعينا قد اعتنقه منهجاً بنائياً لموهبته وملكته الشعرية، والأفذاذ من مبدعينا يتناوبونه مع إبداعاتهم الشعرية الحديثة، حرصاً على التنوع الشكلي، وبالتأكيد أيضاً الموضوعي في إبداعاتهم.
ثانياً: كذلك، هل يختلف تطبيق أي منهج على أحد الشكلين المنسجمين، للهوية الواحدة في المعايير التحليلية، أم يتفق ويتشابه في العملية التحليلية؟
فإذا أخذنا مثالاً تطبيق المنهج التاريخي، نجد أن النصوص القديمة تحكي تاريخاً عاماً في الغالب، يهم الجماعة ذات المكان الواحد والتاريخ المشترك والهوية الواحدة والسيادة الواحدة في بقعة جغرافية واحدة، أو يحكي سيرة شعب، أو أسرة حاكمة، أو سيرة دولة في شخص حاكم.
في المقابل، نجد أن النصوص الجديدة تحكي تاريخاً شخصياً في الغالب، تغلب عليه سمات الخيال، والتأثر بالثقافات الغربية، وتمثل معانيها وأعلامها، وسرد الرحلات والأسفار، والتنقلات في بلاد الغرب والمعاناة الذاتية الخاصة، والحنين الدائم للوطن، ومرارة الغربة، والاشتياق للعودة، مهما كان التوطن الخارجي، والاستيطان وسهولة العيش، ووصف المدن الأوروبية، وما تحويه وتملكه، مقارنةً بالوطن بعيد المكان الساكن في القلب، تسمو لتحكي التجربة الإنسانية وتحل نفسية الإنسان في كل بقعة أرضية. ولا تشتمل على ذكر للدين أو المبادئ والقيم، والحكم الحياتية، أو دروس مستفادة، ولا تؤدي غرضاً شعرياً معيناً من أغراض الشعر العربي العمودي المعروفة، إنما تكاد تكون إن صحت التسمية سرداً فنياً، لا أحد ينكر روعته، والجميع يعترف بوجوده وكينونته، ومكانته، ويلحظ عليه أن صوره الشعرية تطفح بالرمزية.
ويمكن أن تكون بعض هذه النصوص استرجاعاً لمقروء أجنبي بلغة عربية، أو حتى تقليداً أعمى وكفى، وهؤلاء ليسوا هم المعيار والقاعدة، إنما هم قلة انحرفت عن القاعدة من ذوي التجارب المبتدئة، أو ممن يدعون الشعر والفن والجودة، بخلاف الشعر العمودي الواضح الصريح ذي الهدف محدد الغرض الشعري، وهو يمثل لسان حال الجماعة، وما تحلم به من آمال وطموحات، وما يعتريها من هموم وصراعات.. إلخ
وعندما نتحدث عن إنتاج النصوص ومنابع تكونها، والكيفيات التي بها، والأشكال الإبداعية التي يأتي عليها، نجد أنه:
1 – بالإمكان أن يأتي إنتاجاً فطرياً خالصاً، ويتأتى ذلك بانتقاء الألفاظ المناسبة، والصور والمعاني، وأسلوب الطرح، أي: طريقة العرض.
2 – هذه الألفاظ والصور والمعاني والأساليب وطريقة العرض تأخذ صوراً عدة في ظهورها:
أ – إما أن تكون اتباعاً أعمى مظهراً وجوهراً للنصوص الأجنبية، كما نجد في بعض قصائد النثر الحديثة جداً، التي تمثل مدعي الشعر خاصة.
ب – ويمكن أن تكون مثاقفة قصدية واعية بين أجناس الأدب المتفقة نوعاً، العربية منها بالعربية، أم العربية بالأجنبية.
ج – ويمكن أن تكون تناصاً مع رؤى وأشكال شعرية أو أدبية نثرية أخرى، محلية كانت أو عالمية، نتيجة تأثيرات وتأثرات معينة.
د – أو أنها تظهر اتباعاً وتقليداً للنص العربي الأصيل (الشعر العربي الملتزم بالقافية الواحدة) شكلاً وغرضاً شعرياً.
إن المسألة الانتقائية للألفاظ والمعاني والصور والأساليب ليست بالقضية الشائكة المعقدة، التي تحتاج لتفسيرات ومبررات لاختيارها واعتمادها والعمل عليها من قبل المبدع، وهي ليست بالضرورة خاضعة لمعيار معين تقوم عليه عند جميع مبدعي النصوص الأوائل (أصحاب النصوص أصلية الشكل الإبداعي الأول) باعتبارها مبادئ ثابتة، أو أن إبداعهم لنصوصهم، إنما يمكن أن يتبع المبدع أحد الوجوه السابقة للإبداع، أو بعضها، أو حتى كلها.
ومن وجهة نظري، أرى أن النص الأصيل، هو النص الفطري تلقائي النشأة بالسليقة والفطرة، والموهبة الإلهية الملقاة في الجوف، بعد صقلها وشحذها بالممارسة، في أي قالب يكون من القوالب الفنية النثرية أو الشعرية، القديمة أو الحديثة، وهو النص الذي يشب بالتجربة الناضجة، المغذاة بالثقافة اللغوية عميقة الصور، بعيدة الدلالة بعداً مطلوباً بواسطة الغموض الذي يطلب طلباً ويكون أدباً، وأن تكون الألفاظ فيه، مسبوكة سبكاً صحيحاً غير متكلف وغير متصنع، وأن يتوشى المبدع بثقافة معرفية واسعة ومنوعة بحكم الحياة، وتجاربها، والمعاناة التي عاشها، ومدى تأثره العميق والكافي بها.
وأرى أن السمات الفنية والجمالية واللغوية والبلاغية لأي نص، تعتمد على المعيار والمحك والهدف الذي من أجله أبدع النص، والمؤثر الذي أثر في ولادته، ومدى عمق جراحه في نفس المبدع. يعني أن الفرق الذي كاد أن يكون جوهرياً بين النظم والشعر بأغراضه الشعرية المختلفة هو العواطف والمشاعر الجياشة، فللنظم هدف للمتلقي، وللشعر أهداف وغايات للمبدع والمتلقي معاً، ومن الأمثلة التراثية الشهيرة: الحوليات، والمعلقات، وكل نص رائع بحكم نقدي ومعايير أدبية رائعة ورائقة المبنى والمعنى.
فكلما جلس المبدع لاختيار ألفاظه وصوره ومعانيه ليفكر ماذا عليه أن يصنع وماذا عليه من مهمة، كان التكلف ووجدت الصنعة، فغلبت الصنعة والتكلف والزخرف في النصوص شكلاً وموضوعاً، وهذا يتضح في بعض قصائد الشعر العمودي التقليدي لشعراء معينين ليسوا بالكثرة، فيكون هذا الإنتاج كالإنتاج المادي للسلع المادية المستهلكة اللازمة للحياة، غرضه الترويج للسلع من أجل الربحية، وما يهمه في الغالب، كم الإنتاج وغزارته وليس النوع والكيف والقيمة المعنوية، لأنها سلعة مستهلكة لا يمكن إعادة تصنيعها وتدويرها لاحقاً.
أما إذا كانت السمة الغالبة على الأعمال، هي الجياشة العاطفية والتلقائية في الإبداع فطرياً، فهنا نستطيع أن نقول عن هذا العمل أنه صنع فنان، وسماته الجمال والتعبير عن المشترك الإنساني العظيم وخلوده، وكما جاء على لسان أحد المفكرين الفرنسيين: إن التفكير في الفكرة يكفي لقتلها (1).
فعندما يقوم الكاتب بكتابة النص على أن له معنى محدداً، وقد حدد هذا المعنى صاحبه، نجد هذا مخالفاً للنظريات النقدية الحديثة ورؤيتها للنص على أنه مفتوح المعاني، ولم يعد ينطوي على معنى محدد واحد فقط، أو عدة معان ينبغي أن يكتشفها القارئ.
ومن منظور نظرية التناص يبقى العمل غير مكتمل إلا بالقارئ الناقد، أو القارئ الأديب، أو حتى القارئ العادي، وله عدة معان تأويلية بناء على نظرته وإحساسه وشعوره الداخلي، وكذا حال الأجيال القادمة المتعطشة للمعرفة (2).
وقد ذكر لي أحد أساتذتي في جامعة نزوى موقفاً لأبي نواس يشهد لهذا المعنى، مفاده أن أبا نواس كان يتردد بكثرة على الحانة لشرب الخمر، وذات يوم، وهو بالحانة، نادى على النادل وقال له: إئتني بكأس من الخمرة، وقل لي: هذه كأس من الخمرة. وكان على طاولة ثانية بالقرب منه تلاميذ له في الحانة نفسها، فتعجبوا من أمره وقوله، وكانوا ثلاثة واختلفوا في تبرير سبب طلبه العجيب من النادل. فقال أحدهم: إنه سكران ولا يعي ما يتفوه به. وقال آخر تبريراً اجتهادياً آخر مختلفاً.
والحقيقة والغاية التي أرادها أبو نواس بعيدة كل البعد عما وصلوا إليه في تبرير موقفه، حيث إن أبا نواس عندما كان يشربها، كان يتلذذ بها عن طريق حاسة التذوق. وعندما كان يشمها، كان يشبع لديه حاسة الشم، وبقيت حاسة ثالثة لم تطعم بعد، حيث أراد أن يطعم حاسة سمعه أن يسمع قول النادل: هذه كأس من الخمرة.
وكذلك في الأدب، المهم من قبل المتلقي والناقد، أن يعرض النص بطريقته الإبداعية الجديدة، المقبولة والمقصودة، والمبدع يؤمن أن طريقة الإبداع في الطريقة هي مكمن الإبداع في النص، وهو ما يتلذذ به المتلقي، والقارئ.
المجلة العربية
………………………
(1) من مقابلة مع الشاعر زاهر الغافري.
(2) مقابلة مع الدكتور إسماعيل الكفري أستاذ الأدب في جامعة نزوى، 2012 م.