الشـأيقـيـد/التــوُب السـوداني: ماركـة مـسـجـلة..!
الباحث/عبدالله اوبشار
في خضم الحياة التي تتصارع فيها الثقافات، وتتنافس فيها الرؤى والأفكار، تتوالى فيها الأحداث في وتيرة متسارعة متلاحقة، كأمواج بحر متلاطمة هادرة. وفي عالم ذابت الفوارق والمسافات فيه بين الحضارات والثقافات، وصار القاصي يدركه الداني، والداني يتصل بالقاصي صوتاً وصورة، وصار العالم بين أطراف الأصابع، يتعرض تراثنا الثقافي غير المادي والمادي لمخاطر جسيمة تشكّل تهديداً مباشراً على بقائه واستمراره، وقد تؤدي إلى تشوهه فيصير مسخاً لا قيمة له.
إن موروث آلاف ومئات السنين قد يضيع في سنوات قليلة وأيام عديدة، إن لم ندرك خطورة ما يهدده، وإن لم نسعَ جاهدين للحافظ عليه. هذه المهددات والمخاطر قد تكون من خارج المجتمع، وافدة عليه من مجتمعات نائية وثقافات وافدة. ولقد قيل بأن الثقافة مأخوذة من ثقف وثقوف الرماح وأقلام حادة ثقفت أفواه الرماح، ومن عرف ثقافة ولغة قوم أمن شرهَم، ومن الأشياء المحورية أن تبحث عن الجانب الأهم في الثقافة والموروث، المرتبط بالقيم والأخلاق والأدب وفن التعامل بين الشعوب، ومن أجملها أن يتفاخر الإنسان بثقافة وإرث اسلافة وفلكلورهم (حكمة الشعوب). وهي اعتزاز بالقيم، سيما أن يكون ذلك زياً يزيد الإنسان جمالاً ومهابة.
إذا أردنا الحديث عن الزي والزينة للرجل في الثقافة البجاوية، فإننا ذكرا لا حصراً، نتحدث عن طقوس تتويج ومحافل تنعقد وذبائح واحتفالات، وضرب الدفوف عند إرتدائها، فقد تعقد تلك الطقوس عند تتويج القيادات الأهلية من النُظَّار والعمد والمشايخ في زماننا هذا، وكذا عند مناسبات الزواج عند البجا. ومن المميز أن البجا هم المجموعة الوحيدة التي تحتفل عند هذا الأمر، فقد يجلس العريس لهذا الطقس ويرتدي جميع ملابسه، وسط هذه الحلقة الدائرية من الرجال، وهم ينشدون تكبيرا وتهليلاً، بداية بالسروال ونهاية بارتداء الثوب الأبيض (الشايقيد) وغطاء الراس الأحمر، وقلما نجد شعب يحتفل بتغيير الملابس، إيذاناً للإنطلاق لمرحلة أخرى في حياته، بتتويج يعني الهِمَّة والمسؤولية والمقدرة والكفاءة وبلوغ أشده، سواء كان ذلك عرساً أو تتويجاً لمرحلة قيادية.
وإذا أردنا الحديث عن التوب الشايقيد: فنجد بأنه ماركة مسجلة تحدثت عنها مراجع تاريخية قديمة، وأذكر هنا دراسة الدكتور ابوعبيدة الماحي. حيث قال: بأن الثوب الرجالي عُرِفَ بالأردية الخارجية لدى معظم الشعوب قديماً، حيث كان يُستَخْدَم كزيٍ خارجي، يُلْبَس فوق الزي الأساسي، فهو عبارة عن قطعة مستطيلة الشكل تتفاوت في طولها وعرضها بين شعبٍ وآخر. أما قبائل البجا، فقد وصفهم إبن بطوطة بذوي الملاحف الصفراء (مؤنس، 1980: 163)، وهو أقرب إلى وصف الثوب، والذي عادة يُتَلَفَّح به. فقد كان يُلْبَس في الماضي دون سروال، حيث يتم لَفَّه حول الجسم عدة مرات، ينتهي بتخريمه عند الوسط، أما حالياً فيبلغ طول الثوب حوالي 10 أمتار حسب حجم الشخص، ويتم لَفَّه بالجسم بعد تقسيمه إلى نصفين متساويين، ويُوضَع من الخلف ويُجْذَب عند الطرف الآخر (الأيسر) تحت الإبط اليسرى أيضاً بالصدر، ومنتهياً على الكتف الأيمن مكوناً الشكل (X). ويُفَضِّل رجال البجا الثوب الذي يكون طوله 10 أمتار دون غيره، حيث يناسب متوسط أحجامهم وأطوالهم، أما خامات الثوب فقد كانت في الماضي من الخامات القطنية المتاحة في ذلك الزمان، الكرب البنقالي، والذي يستجلب من الهند. وله كنار ملون بعرض ثلاثة بوصات، وهناك خامات أخرى استخدمت في الثوب، كالشاش والدمورية. حديثاً أرتدي الثوب من الخامات الصناعية، البولستر وكذالك التوتال.
ارتبط الثوب بالمناسبات الإجتماعية والدينية، وكان يفضل في المناسبات الإجتماعية أكثر من المناسبات الأخرى، لأن الظروف الإجتماعية والاقتصادية المتجددة حَدَّت من إستخدامه، فالنهضة التعليمية والتثاقف لدى المجتمع وما يحيط بطبيعة العمل ومفهومه، حتم عليهم التخلي عن لبس الثوب بصفة دائمة، حيث يعوق في أغلب الأحيان ممارسة المهن الجديدة التي حتمتها الظروف المدنية، التي وجد البجا أنفسهم جزءاً منها، كما أن التكلفة العالية لقيمة الثوب مع محدودية الدخل جعلتهم يحجمون عن استخدامه، إلا في تلك المناسبات الاجتماعية والتي أصبحت ملتقى إجتماعي تتجمع فيه القبائل المختلفة. وحينما يحرص الشيوخ والعمد والنظار على ممارسة التقاليد بصورتها الكاملة، خاصة وأن معظمهم ممن تجاوزوا عمر الستين، وهم أكثر تمسكاً بالتقاليد والعادات والموروث.
من خلال الخامات المستخدمة في السابق وحالياً، يتضح أن اللون الأساسي للثوب هو لون الخامة. ففي الماضي كان الدمورية والشاش والكرب والتي ينحصر اللون فيها الأبيض والسمني، أما حالياً فلون خامة الثوب في معظم الأحيان هو اللون الأبيض لإستخدامهم الخامة (توتال). وتتكون الأزياء الرجالية لقبائل البجا من: القميص، العراقي، السروال، الصديري، العمامة، الطاقية، الثوب. ويشابه القميص عند البجا مايعرف (بالصدارة)، والذي كان يرتديه قدماء المصريين والاشوريين والفارسيين (Reisner, 1918: 7). ويعتبر زياً هاماً لرجال البجا، وهو يشبه، إلى حدٍ كبير، الجلابية السودانية المعروفة (بالبلدية)، والتي تلبسها قبائل وسط وشمال السودان..( الماحي، صفحة 37).
من الحديث عن المراجع التاريخية والموروث، نجد بأن هذا الثوب هو إرثٌ سوداني قديمٌ جداً، من لدن كوش والحضارة المصرية القديمة، ومازال مكرساً في الثقافة البجاوية التي حافظت على هذا الزي السوداني الأصيل، حيث وثق الأسلاف ذلك التاريخ بالنقوش على الجداريات، وأعتقد بأن محاولة إظهارها كموروث وافد للسودان فيه مغالطات وتعدٍ سافر للتراث، والموروث السوداني، برؤية ضيقة من مجموعة تحاول التعدي على حقوق الآخرين، وقد تابعت هذا الهاش تاغ للعام الثاني، وماسمي باليوم العالمي للسماديت فلم أجد يوماً مخصصاً، ولو كان ذلك فيعتبر تعدٍ سافر يحتاج للتحرك، وإيقاف ذلك الأمر من الجهات التي تعتمد تلك الأمور دون الرجوع إلى المراجع التاريخية، التي تثبت حصرية هذا الأمر لمجموعة محددة.
إننا نؤكد بأن هذه الأخطاء ومحاولة تغيير التسمية من التوب السوداني والشايقيد للسماديت، فيه جهل وتجاوز وشبيه بإدعاء المملكة في الصحراء الشرقية، عبر الإعتماد على كتب ومصادر لا تعرف الاختلاف بين الجغرافيا والتاريخ بواقع اليوم. وسيظل إيقاع الكرن خاص بأهلنا النوبة، والبيوب والهوسيت وغيرها من الثقافات البجاوية، والدليب لدى الشوايقة والمردوم وغيرها لأهل دارفور، وكذا الملبوسات والزي لكل الشعوب صبية ورجال ونساء. وهنا نجد بأن الشعراء والفنانين قد حافظوا على هذا الموروث في الشعر والغناء، على نحو يا بلدي ياحبوب جلابيه توب سروال مركوب جبه سديري وسيف وسكين ياسمح يازين، شعر أبو آمنة حامد وغناء العملاق محمد عثمان وردي لهما الرحمة والمغفرة.
نؤكد كذلك، بأنه ورغم الإيقاع المتسارع للأنظمة الثقافية، إلا أن ثوابت في الفلكلور السوداني وخصوصية المجتمعات السودانية ستظل باقية ومحروسة، مهما حاول البعض تغبيش الحقائق.
لمزيد من المعرفة، يُمكن مُراجعة:
- نماذج لبعض عادات وتقاليد البجا ومقارنة أثنواركيولوجية مع مثيلاتها في الدولة الكوشية. الباحث أبوعبيدة الماحي خليفة الحاج.
- الإكتشاف العظيم الشواهد والدلالات البجاوية والفرعونية. الأستاذ/محمد ادروب اهاج