مقالات

الهجرات العربية لبلاد النوبة والبجا في القرون الوسطي (1)

أبوالقاسم عوض عثمان يكتب

المتتبع لصلات الجزيرة العربية بأفريقيا عموما وبلاد النوبيين والبجا خصوصاً في التاريخ يجد أن هذه الصلات موغلة في القدم وتعود إلي ماقبل ظهور الإسلام وهذه الصلات تدعمها الحقائق الجغرافية والروايات التاريخية فالبحر الأحمر لم يشكل حاجزا في وقت ما يمنع الإتصال بين شواطئه الشرقية والغربية. إذ أن إتساع البحر الأحمر لايزيد عن المئة والعشرين ميل عند الأراضي السودانية بمختلف مسمياتها التاريخية و ليس من الصعب إجتيازه بالسفن الصغيرة وفي الجانب الجنوبي منه يضيق البحر الأحمر عند بوغاز باب المندب حتي لايزيد عن عشرة أميال وهو طريق قد سلكته سلالات وأجناس إلي القارة الأفريقية منذ عشرات الآلاف من السنين.  كانت التجارة هي أهم وسائل هذا الإتصال وكانت للعرب بعض المراكز التجارية في الساحل الأفريقي ومنها يكون توغلهم في العمق الأفريقي حتي وادي النيل علي أقله.
وقد وثق الرحالة العرب هجرات مجموعات عربية إلى شرق السودان ووسط وشمال السودان في القرون الوسطى،  وقد صحب ذلك إستقرار عدد غير قليل من هؤلاء في أجزاء مختلفة من حوض النيل كما لاينكر آثار التغييرات المناخية والصراعات  القبلية والحروب والكوارث الطبيعية الأخريفي نزوح البعض منهم  إلي شرق البحر الأحمر.
ويري ريد أن بعض هؤلاء العرب إختلطوا بالحاميين سكان شرق السودان وورثوا ملك أجدادهم من ناحية الأم حسب نظام التوريث الأمومي المعروف عن الشعوب الحامية(إبن الأخت / إبن البنت) .
فحسب كلام الرحالة والمؤرخين المسلمين الذين مروا على أرض البجا :
أنه لما صاهرت قبيلة ربيعة البجة بعد الإسلام (حسب النظام الأمومي الذي كان معمولا به لدى البجا ومعظم المجموعات القبلية السودانية القديمة، وهو كان تقليدا متوارثا من التاريخ الحضاري القديم لشعوب السودان بتوريث الزعامة أو الملك لإبن الإبنة أو إبن الأخت )..
 لم يتغير البجة الحدارب، بل ورثت ربيعة ألقاب الحدارب كما تقول الرواية، وظل إسم الحدارب علماً على البجة (في الشمال) حتى نهاية مملكتهم في القرن الخامس عشر الميلادي).
وكان الحداربة يتكلمون لغتهم (البداويت )، التي أصبحت أيضاً لغة من عاش معهم، فقد ذكر (إبن بطوطة) في القرن الرابع عشر الميلادي، أن بنو كاهل وجهينة الذين يعيشون مع البجة “مختلطين بهم وعارفين بلسانهم … وطاعتهم للبجة”.
( هنالك ملاحظة أخرى وهي أن سلالات البجة الحداربة الحاليين مثل البشاريين والهدندوة والأمرأر وغيرهم كثر ..لا ينتسبون إلى قبيلة (بلي ) العربية التي تذكر الروايات صلتهم القديمة بها. أي ليس للبجة الحداربة في الذاكرة الشعبية ارتباط كبير بقبيلة (بلي ) العربية، فارتباط البشاريين كان بالكواهلة والهدندوة والأمرأر بالهاشميين..بحكم التزواج حسب النظام الأمومي ..الذي كان شائعا ضمن مجموعات السودان القبلية كما أسلفت ).
كما لم يجد العلامة د.أحمد الياس حسين أي صلة أو تواجد لقبيلة (بلي) العربية مع البجا.. في كتابات الرحالة والمؤرخين ، وذلك في مؤلفه :” الوعي بالذات وتأصيل الهوية “،
 هذا رغم إدعاءات محمد صالح ضرار بتواتر هذا الأمر في الذاكرة الشعبية !!
كذلك، ذكر إبن بطوطة أن القبائل العربية الوافدة كانت تتبع للبجا وتتحدث لغتهم :
(“ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب، فردتنا الريح إلى جبل يعرف برأس دواير وسافرنا منه في البر مع البجاة. ووردنا ماء كثيرة النعام والغزلان، فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة. ووردنا ماء يعرف بمفرور، وماء يعرف بالجديد. ونفذ زادنا فاشترينا من قوم من البجاة وجدناهم بالفلاة أغناماً وتزودنا لحومها ورأيت بهذه الفلاة صبياً من العرب كلمني باللسان العربي وأخبرني أن  البجاة أسروه، وزعم أنه منذ عام لم يأكل طعاماً… وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دواير، وصلنا إلى عيذاب … واكترينا الجمال وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم …ووصلنا إلى قرية العطواني، وهي على ضفة النيل، مقابلة لمدينة إدفو من الصعيد الأعلى.”).
كما وصف المسعودي في القرن العاشر الميلادي قبيلة ربيعة العربية قائلاً:” فاشتدت شوكتهم وتزوجوا من البجة ، فقويت البجة بمن صاهرهم من ربيعة، وقويت ربيعة بالبجة على من ناوأها وجاورها” ويقول عن بشر بن إسحاق زعيم ربيعة( الذي ورث زعامة البجا حسب النظام الأمومي)، إنه يركب في “ثلاثين ألف حراب على النجب من البجة بالجحف البجاوية وهم الحداربة وهم المسلمون من سائر البجة” (المسعودي، مروج الذهب. في مسعد، المكتبة ص 51).
ثم عاد وتناولهم باسمهم “الحداربة” أثناء حديثه عن قبيلة ربيعة العربية فقال:
“وتزوجوا في البجة، فقويت البجة بمن صاهرها من ربيعة، وقويت ربيعة بالبجة على ما ناوأها … وصاحب المعدن في وقتنا هذا – وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة – أبو مروان بشر بن إسحاق، وهو من ربيعة يركب في ثلاثة آلاف من ربيعة وأحلافها من مضر واليمن وثلاثين ألف حراب على النُّجُب من البجة بالحجف البجاوية، وهم الحداربة، وهم المسلمون ممن بين سائر البجة”
وأضاف إبن سليم أثناء حديثه عن البجة والعرب في أرض المعدن:
” ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاماً ضعيفاً، وهم شوكة القوم، ووجوههم، وهم مما يلي مصر من أوّل حدهم إلى العلاقي وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك.”
فمملكة الحداربة كانت ممتدة كما وصفها ابن سليم بين وادي العلاقي وميناء عيذاب، وضح كل من المسعودي وابن سليم أن ” ناقص” مملكة الحداربة قد قويت بعد منتصف القرن الثالث الهجري (9 م) بمصاهرة ربيعة، وأصبح ملوكها شوكة البجة ووجوههم. وقد استقرت قبيلة ربيعة في أرض المعدن كما ذكر إبن حوقل عام 238 هـ مع بداية توافد المسلمين لأرض المعدن.
وهنالك ملاحظة أخرى وهي أن سلالات البجة الحداربة الحاليين مثل البشاريين والهدندوة والأمرأر وغيرهم ..لا ينتسبون إلى قبيلة بلي العربية التي تذكر الروايات صلتهم القديمة بها. أي ليس للبجة الحداربة في الذاكرة الشعبية ارتباط بقبيلة بلي العربية، فارتباط البشاريين بالكواهلة والهدندوة والأمرأر بالهاشميين ).
“بروف. احمد الياس حسين ،الوعي بالذات وتأصيل الهوية”
وأوضح إبن حوقل في (صورة الأرض، في مسعد، المكتبة السودانية، ص 60) ، في القرن العاشر الميلادي، نفوذ وامتداد الحداربة جنوباً كان في منطقة سواكن فيقول:
“وتحاذي سواكن برقابات وحنديبا ، وهم خفراء على الحدربية“..
أما الطريق الشمالي وهو طريق برزخ السويس فقد لعب دوراً عظيماً في تاريخ العلاقات بين سكان الجزيرة العربية وسكان وادي النيل الأدني منذ فجر التاريخ ولم تخل الآثار المصرية القديمة من إشارات إلي بدو سيناء وفلسطين وسوريا وغيرهم من العرب الشماليين الذين عرفتهم مصر منذ عهد الأسرات الأولي كتجار أو غزاة أوكمهدد لمصالح الأمبراطورية المصربة القديمة ولم تنقطع هذه الصلات بمصر في زمن البطالمة والرومان كذلك. وقد كان التأثير الأكبر لهذه الهجرات العربية في وادي النيل هو عقب ظهور الإسلام وهو التأثير الذي ضخ دماء عربية كثيفة في الدم الحامي الكوشي وفتح الباب أمام اللغة العربية لغة الدين الإسلامي في دائرة أوسع من البلدان المجاورة
وتعتبر حملة عمرو بن العاص  سنة 639م علي مصر هي بدايات هذه الهجرات الكبرى والتي شقت طريقها من عمق الجزيرة العربية إلي أفريقيا عبر برزخ السويس.
لمزيد من الاستزادة حول موضوع المقال يمكن للقاريء الاطلاع علي كتاب المؤرخ مصطفي محمد مسعد عن الهجرات العربية لبلاد النوبة في القرون الوسطي وقوة هذا الكتاب تكمن في أنه جمع كثير مما تفرق عن معلومات تاريخية في هذا الشأن.
يتبع باذن الله،،،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى