تقارير

تذبذب علاقات السودان مع إثيوبيا يقلل من فرص التسوية بينهما

المواقف المتباينة من القضايا العالقة تسهم في استمرار الغموض الذي قد يصبح سياسة هدامة

تقريب وجهات النظر خطوة البداية لإنهاء المشاكل

مع تعنت إثيوبيا وإصرارها على مواقفها تجاه السودان سواء في ما يتعلق بالحدود أو سد النهضة أو حتى أزمة المهجرين من إقليم تيغراي، تتزايد سخونة التوتر القائم بين البلدين ويجر العلاقات إلى مربع التذبذب الذي لن يزيد من المشاكل العالقة إلا تصدعا، مما سيفضى إلى تقلص فرص التسوية حتى مع وجود وساطات إقليمية تحت مظلة الاتحاد الأفريقي أو دولية تحت مظلة مجلس الأمن.

كشفت التطورات الأخيرة عن تصورات تنم عن تباين في الموقف السوداني من إدارة العلاقات مع إثيوبيا، وأن هناك صعوبة بالغة في استشفاف الطريق الذي يمضي فيه مع تشابك القضايا محل الخلاف بين البلدين، وصارت عملية تبني مواقف حاسمة مسألة بعيدة المنال، تقلل من فرص الوساطة ونجاح التسوية السياسية بينهما.

ويخل التذبذب الحالي في الطروحات بالتوازنات الإقليمية التي رأت في وقت سابق أن العلاقة بين الجانبين يمكن أن تشهد تقدما يقود إلى مزيد من الأمن والاستقرار في المنطقة، وما يحدث الآن من تراشقات على وقع الأزمات الشائكة يفضي إلى نتيجة لا ترغب فيها قوى توقعت تحسنا بينهما.

ويتجاوز التغير فكرة تأثير الموقف المباشر من أزمتي سد النهضة والحدود، أو لاجئي إقليم تيغراي والخوف من عودة شبح الحرب بالوكالة، ويصل إلى درجة تبني توجهات مختلفة في تفاصيل الحالة الواحدة، بشكل يؤكد أن هناك مساحة لا تزال غاطسة في المواقف النهائية تسهم في استمرار الغموض الذي قد يصبح سياسة هدامة.

ما خيارات الحل

سد النهضة.. ملف شائك

أكدت الحكومة السودانية الاثنين الماضي “ثقة السودان في الاتحاد الأفريقي وقيادته لجهود الوساطة للوصول إلى حلول سريعة وناجعة لمسألة سد النهضة”، بعد تصريح سابق لوزير الري ياسر عباس وصف فيه الاتحاد الأفريقي بـ”المنحاز” إلى إثيوبيا، وعقب الإصرار على تنفيذ المقترح الخاص بالوساطة الرباعية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بجانب الاتحاد الأفريقي، وتشير في محتواها النهائي إلى عدم الوثوق في جهوده الرامية لحل أزمة سد النهضة.

وأعلن السودان أن وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي ستبدأ جولة خارجية تؤكد فحواها أهمية البعد الأفريقي في حل أزمة سد النهضة، حيث تشمل الكونغو الديمقراطية وكينيا ورواندا وأوغندا.

وتهدف الجولة الإشارة بعدم إهمال الدول الواقعة ضمن حوض النيل، لكن تزامنها مع لجوء الخرطوم إلى مجلس الأمن الدولي لعرض القضية عليه، والتهديد بمقاضاة الشركة الإيطالية المسؤولة عن الإجراءات الفنية في المشروع، يقلل من هذا الهدف، ويحولها إلى جولة للعلاقات العامة، غرضها تحييد دول حوض النيل.

وتمتد المراوحة إلى الموقف من الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا، فمن التلويح إلى السيطرة على منطقة الفشقة بالأدوات العسكرية إلى القبول بالتفاوض والوساطة، لكن من دون إنكار أن المنطقة سودانية وعدم وجود التباسات قانونية حولها، ثم يجري نفي أي توجه للأعمال المسلحة لحل الأزمات المتراكمة مع إثيوبيا.

وأحدث الهبوط والصعود في التوجهات قدرا من التشويش حيال إدارة الخرطوم للعلاقات مع أديس أبابا، حيث انتقلت من شعار “إثيوبيا أخت بلادي” الذي أطلقه سودانيون عقب ثورتهم على نظام الرئيس السابق عمر البشير، إلى قاموس يحوي مفردات من نوعية: الكذب، الغطرسة، التعنت، والحل الحادي، ومن الحديث عن فوائد كبيرة لسد النهضة في مجال الكهرباء والتنمية والري إلى مخاطر جمة وداهمة تهدد حياة 20 مليون مواطن سوداني.

ويعود التباين الحاصل في التعاطي السوداني مع إثيوبيا إلى أسباب كثيرة، بعضها له علاقة بطبيعة الأزمات نفسها والعوامل المؤثرة فيها وتداخلاتها، والبعض الآخر على صلة بالأجواء السياسية داخل البلدين، والتقديرات التي تتحكم في رؤية الطبقة الحاكمة.

وقد لعب المحددان دورا مهما في التصعيد أو التهدئة، وبدت المقاربات السودانية حيال أديس أبابا مترنحة، وربما حمّالة أوجه، كأنها تخاطب جهات متضاربة، أو تريد من كل جهة فهمها بالطريقة التي تريحها، ولا تحشرها في خيار واحد.

وينطوي التمسك بالتوجه الرمادي على إشارة توحي بالمرونة، لأن العلاقات مع إثيوبيا متداخلة، ومن الضروري أن لا تنحصر في حلول ضيقة، وبدأت تدخل على خطوط الأزمات قوى إقليمية ودولية، فمن مصلحة الخرطوم عدم قطع خطوط الرجعة مع دول الجوار، ما يضطرها إلى تبني مواقف متناقضة، خوفا من أن تعصف الخلافات الخارجية بالسلطة الانتقالية.

وأنهت السلطة الانتقالية السودانية مرحلة من التباعد بين المكونين العسكري والمدني في كثير من الملفات الإقليمية، وأصبح التوافق كبيرا بينهما في إدارة الأزمات مع إثيوبيا التي حوت بجانب سد النهضة والحدود، أزمة المهجرين من إقليم تيغراي، والتي من الممكن أن تتفاقم الفترة المقبلة في ظل ما يتردد من معلومات حول ارتكاب انتهاكات إنسانية عديدة تقوم بها القوات الإريترية التي دخلت في عمق الإقليم.

اللعب على التناقضات

يعلم السودان أن الحكومة الإثيوبية لا تريد تصعيدا معه يزيد آلامها الداخلية، ويعلم أيضا أنها ليست مستعدة لإظهار مرونة تؤدي إلى تفاهمات واتفاقات تتولى تفكيك العقد الراهنة، حيث تتعامل أديس أبابا مع أزماتها في الداخل والخارج على طريقة المعادلة الصفرية الشهيرة التي لا تقبل أنصاف الحلول والتسويات وترفض تقديم تنازلات، وهو محدد آخر فرض على الخرطوم اللجوء للصرامة حينا والليونة أحيانا.

ودخلت السلطة السودانية حيرة من نوع آخر، إذ تريد إظهار تشددها في القضايا القومية على خلاف عهد الرئيس السابق عمر البشير الذي تسبب في خسائر فادحة، قادت إلى انسلاخ جزء من الدولة بعد انفصال جنوب السودان.

وتريد السلطة الراهنة، في الوقت نفسه، أن تبدو أمام العالم كأنها قادرة على التكيف مع محيطها الإقليمي والتكامل معه، وكشفت بعض المحكات عن صعوبة التوفيق بين الطريقين، لأن هناك مزايا وتكاليف باهظة أيضا لكليهما.

وأرجعت تلميحات من دوائر سياسية لجوء الخرطوم إلى التشدد مع إثيوبيا والانسجام مع مصر إلى مصالح عدة نسجتها المكونات العسكرية الحاكمة في البلدين، وحملت معها إشارات بـ”التبعية” للقاهرة، وتجاهلت تكثيف الضوء على ما يحققه التعاون والتنسيق بينهما من فوائد لكل من السودان ومصر، واستخدام “التبعية” يفجر حساسيات سودانية قديمة.

ودفع الربط الخفي بعض القوى السياسية في الخرطوم إلى تعمد التركيز على الخصوصية السودانية والبعيدة عن الحسابات المصرية مع إثيوبيا، وجاء الموقف من الخيار العسكري واضحا كدليل على التباعد، فعندما لوّحت القاهرة به تمادت الخرطوم في التركيز على الليونة، في محاولة لنفي الارتباط الشرطي بين الجانبين، ودحض ما يتردد داخل أديس أبابا حول “مؤامرة عسكرية” تحيكها مصر وأقنعت بها السودان.

وأحد تفسيرات التذبذب والتي لم تحظ بمكاشفة سياسية واضحة تتعلق بتدني العلاقات على المستوى الشعبي بين الخرطوم والقاهرة، فوسط توثيق أواصر التعاون لا تزال هناك هواجس مكتومة حيال مصر، ويعيد البعض نكأ جراح تاريخية، بينما تحرص السلطة الانتقالية على تأكيد أن العلاقة مع إثيوبيا تنأى عن الحسابات المباشرة مع القاهرة، كي تخرجها بعيدا عن صفتي “التبعية والتآمر”.

ومع عدم استبعاد الصدام السياسي بين السودان وإثيوبيا يتراجع الحديث عن التوازن الإقليمي الذي أرادته بعض القوى، لأن ما رشح من رؤى الفترة الماضية يمكن أن يتسبب في تحول التبذبذب إلى ارتباك ثم إنفلات وفوضى، فالتصعيد المستمر بات ورقة رابحة في أيدي قوى مؤثرة في القرار داخل البلدين.

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى