جذور الأزمة في السودان: ثقافية، أخلاقية وقانونية..!
أ.د. عامر عباس حمد [*]
بطلب من مجموعة التجديد الفكري والواقع في إطار طرح قضايا وعناوين للنقاش الحر المفتوح نقدم هذه الأطروحة الصغيرة حول عوامل وأسباب وجذور الأزمة السودانية..
……………………..
منذ التاريخ القديم لم تشهد شعوب السودان وإثنياته المختلفة أي شكل من أشكال الوحدة الجامعة لكل فسيفساء وحدات ما أصبح يعرف الآن باسم دولة السودان بحدوده الجغرافية المعلومة الا عبر العامل الخارجي المتمثل في الغزو الاستعماري، فمرةً توحد على يد محمد علي باشا الباحث عن الذهب والعبيد في 1821م، ثم على يد بريطانيا العظمى فيما تلى ذلك..
صحيح وُجدت ممالك وسلطنات متفرقة في وحدات جغرافية متباعدة الا أنها كلها قامت على أساس إقصاء الآخر والنظر إليه باعتباره العدو ولعل غياب مفهوم الدولة القطرية الحديثة عن الفضاء التاريخي آنذاك احد العوامل المؤسسة لذلك وهو داخل فيما نعتبره أحد أسباب الأزمة الراهنة…
إذن فقد ورثنا وطناً مصنوعاً بأيدي الغير وعبر القوة العسكرية، والمفارقة في أن كل أدوات التحديث والإدماج في الحضارة المعاصرة قد تم بأيدي هؤلاء الغزاة ولعل في ذلك امتداد لما سنه نابليون بونابرت بحملته الشهيرة لاحتلال مصر.. والمزعج هنا أن كل التدمير والتخريب والفشل والسعي الحثيث للخروج من ساحة الحضارة المعاصرة وإعادة الانكفاء نحو التخلف والماضوية قد تمت على أيدي،، الوطنيين،، من أبناء هذا البلد المنكوب بأبنائه…
ولعل الحال الذي وصل إليه السودان في الوقت الراهن من فشل وانهيارات وتخلف وانعدام لكافة معينات الحياة ومتطلباتها الضرورية لهو خاتمة المطاف لمسيرة طويلة من قلة الوعي وضحالة الثقافة الإيجابية وعدم العدالة والحياد في إنفاذ القانون وضعف الوازع الأخلاقي المانع لانتهاك الوطن من جهة والحافز للمحافظة عليه قوياً أبياً من جهة أخرى..
وهذه العوامل الثلاثة في تقديرنا الشخصي – إذ للآخرين بكل تأكيد رؤى مختلفة – هي أهم عوامل إضمحلال الدولة السودانية وفشلها البائن رغم إحتوائها على كل مقومات النهضة والتطور والنماء والمنعة من جهة الموقع الجيواستراتيجي والبعد الحضاري والتعدد الاثني والمناخي والبيئي والثروات الطبيعية بكافة أشكالها وتعدد أنواعها ولكنها إفتقدت الرأسمال البشري وهو أهم مقومات النجاح وهو الذي بيده إدارة وتوظيف هذه الموارد والاستفادة منها داخلياً والإفادة بها خارجياً ولكن للأسف إنطبق علينا القول الفصل : ندوس على الياقوت في سبيل بحثنا عن القوت !..
فإذا أخذنا البعد الثقافي فإننا نجده يتمثل في الفشل في الإجابة على السؤال الأهم : كيف يحكم السودان؟ ولم يقتصر الفشل وضعف الوعي وفقر الثقافة في العجز عن الإجابة فقط بل تعدى ذلك لعدم إدراك الحاجة لطرح السؤال من حيث المبدأ ! فمن هو ذا الذي إنتبه لذلك في إطار التهافت الذميم القبيح حول من يحكم السودان؟ الا من شخصية واحدة وحيدة أدى نهجها ذلك لاغتيالها باكراً الا وهو المناضل القائد جون قرنق دي مبيور قائد حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان…
إن عامل البعد الثقافي هنا يبدو واضحاً في أن الفشل لم يكن كامناً في طرح السؤال ولا في محاولة الإجابة عليه… بل في عدم القدرة على إستلهام تجارب الأمم والدول الأخرى حيث أنه من الواضح أننا لسنا في حوجة لإعادة إختراع العجلة، وإنما فقط دحرجتها…
أما العامل الأخلاقي فيتمظهر في عدة جوانب منها ضعف الولاء والانتماء للوطن وإنحصاره في القبيلة، الطائفة، الجماعة.. الخ ويظهر في العجز وعدم القدرة على تجاوز حواجز الجهة، العرق/اللون والمعتقد، بحيث أصبحنا كالإخوة الأعداء يجمع بينهم بيت واحد ويتربص كل منهم بالآخر.
تجلى ذلك في التهميش والاحتقار والازدراء لبعض مكونات السودان وشعوبه وإثنياته وإقصاؤهم بالكامل عن دائرة الفعل وليت الأمر إقتصر على ذلك بل شنت عليهم الحملات التأديبية والحروب والابادات ومورست عليهم شتى صنوف الانتهاكات. وتمثل ذلك في الاستبداد والطغيان السياسي فهو من أسوأ أنواع سوء الخلق ومعلوم ما يترتب عليه من مفاسد وجرائم وتخريب للبشر وللحجر …
أما القانون فهو ثالثة الاثافي… إذ لم نزل أمة بدائية بدوية في همجيتها وتمردها على كل قانون ناظم…أو قواعد مؤسسة.. أو شعور بالانتماء الجمعي لكيان ما. وإنما هو لا مبالاة ولا إهتمام ولا رعاية الا لما يحقق،، أو يُتوهم خطاءً،، أنه يحقق المصلحة الفردية، الأسرية، القبلية أو الجماعة.. الخ وليذهب الوطن الكبير إلى الجحيم مشيعاً باللعنات.
صار التعدي على القانون وإنتهاكه مفخرةً ومدعاةً للبطولة ودليل على الأهمية وسعة النفوذ! وبحيث لا يطبق القانون الا على ضعفائهم ويعفى شرفائهم بذرائع شتى مما أدى لزهد الناس في تحقق العدالة وصب جام غضبهم على الدولة وممتلكاتها بحيث صارت هي العدو لهم أينما وجدوا الفرصة لايذائها والانتقام منها إقتنصوها.. فحيث صار الإفلات من العقوبة منهجاً في مجتمع من المجتمعات صار تخريب الدولة والإضرار بممتلكاتها سلوكاً وديدناً لبقيتهم فمن أين لهم الشعور بالانتماء لمثل هكذا أوضاع.. وعليه، فليس بمستغرب أبداً في وطننا أن هرم السلطة هو أول المجاهرين بالتعدى على القانون وتجاوزه.. وأن فقيه الدستور هو أكثر المتآمرين حماسةً في خرقه ودوسه بالأقدام، وأن رجل القانون هو أول من ينحي القانون جانباً إذا تعارض مع مصالحه.
الأزمة إذن مزدوجة وثنائية الوجه لعملة واحدة فالمجتمع بعيوبه وعلله الأخلاقية والثقافية والقانونية هم من ينتج النخبة،، إن إستحقوا فعلاً هذا الوصف وإنما هو تجوزاً،، وهم بدورهم من يعيد إنتاج الأزمة والمحافظة علي إستدامتها لعوامل شتى ربما تختلف في الوسائل والمنطلقات ولكنها تتفق جميعاً في عقوق الوطن وإيذائه. وحتى لا نطيل فهذه نماذج في عجالة ونختم بتلخيص نرجو إلا يكون مخلاً، من حيث المبدأ فإن الحضارات و الدول الناجحة لا تؤسس الا على القيم الأخلاقية والقواعد والأسس العلمية والفكرية والثقافية وسيادة القانون وتوخي العدل.
فما لم يُعَد النظر في التأسيس الأخلاقي للمجتمع السوداني عبر فلسفة تعليمية جديدة ومغايرة تركز على تعزيز الإيجابي والانساني وكل ما يتعلق بمنظومة حقوق الإنسان. وما لم تتوافر الحريات العامة وحرية التعبير وحرية الضمير بحيث ينفتح الفضاء العام للفكر الحر وتلاقح الوعي الثقافي والإبداع الفني بحيث يعمل هذا الكل المشترك على إعادة بناء وعي ثقافي جديد يتميز بالعمق والنضج والشمول. وما لم يتم تأسيس منظومة حقوقية وعدلية تتميز بالشفافية والكفاءة وبحيث تكون عمياء تماماً الا من الحق ويستوي عندها وأمامها الوزير والغفير. وما لم تتم الإجابة قبل كل ذلك على السؤال المفتاحي : كيف يحكم السودان؟
لابد من إجابة تتمثل في الشكل والفلسفة الوحيدة القادرة على توحيد وجمع شعوب وإثنيات الوطن المتعدد المتباين لونياً وجهوياً ولغوياً ودينياً وثقافياً وحضارياً… الخ. فمن المؤكد أننا سنكون كفاوست بانتظار جودو، أو كموباسان في إنتظار العم توم، وكلاهما لم يأتي بعد، ولن يأتي أبداً مع الفارق بين الإثنين.
[*] وزارة التعليم العالي والبحث، جمهورية السودان.