مقالات

حرية الفكر والتعبير في الصِّحافة السودانية: ” علي يس ” أنموذجاً..!

أ.د. عامر عباس حمد[*]

في ظل التغيير الذي حدث بالسودان مؤخراً كان المأمول أن نشهد تغييرات ملموسة في مختلف جوانب الحياة ومن أهمها جانب الفكر والثقافة وحرية الصِّحافة والإعلام ولكن يبدو أن كل ذلك لا يزال بعيد المنال، فلا تزال الأوضاع بائسة وكئيبة وتنز بالضحالة والإسفاف.  ذلك مما دعانا للعودة وإلقاء نظرة على ما سبق وأن كتبنا حول ذلك في سنوات سابقة إبان الأزمة التي نشبت من جرّاءِ بعض كتابات السيد الصحفي على يس فيما يتعلق ببعض قضايا التراث.. وبطبيعة الحال فقد منع المقال عن النشر حينها، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر  فهل يا تُرَى اختلف الأمر الآن عما قبل؟ فلنقرأ المقال ونترك الإجابة للقارئ…

تابعت كغيري من القراء المعركة التي أُفتعلت في غير معترك مع الكاتب والصحفي الأستاذ ” علي يس ” وذلك من قِبَل بعض كتّاب صحيفة الإنتباهة (د.عوض عارف الركابي ، أ . وقيع الله حمودة شطة ، أ . سعد أحمد سعد و أ. إسحق أحمد فضل الله) وذلك حول ما خطه قلمه في عموده ” معادلات ” تحت عنوان ” الدين الرخيص ” ، و ما كنت أود أن أعلق على ما جرى لو أن هذه الكتابات لم تخرج عن الموضوع ، ولو أنها كانت تنحو بإتجاه النقد الموضوعي البنّاء العلمي الهادف والذي يعترف بالحق في الإختلاف والحق في الإجتهاد  والحق في إبداء الرأى ويستهدف الوصول إلى الحقائق و تبيان الأخطاء، بيد أن هذا لم يحدث إذ إتجهت الأقلام المذكورة لتجاوز الموضوع و للمحاولات المحمومة للنيل من الكاتب و تسفيهه و تفسيقه و وصفه بالفجور تارة وبالجهل تارة أخرى. ومن ثم سحب كل هذه الصفات و غيرها على ( الفكر ) الذي أنتجه أو خطه قلم الكاتب؛ وهي كلها أحكام قيمة ، إن جاز أن تطلق على الأشخاص (وهو غير جائز عندنا من الناحية الأخلاقية ) فإنها لا تصلح لأن تطلق على الفكر . فالفكر لا يصح الحكم عليه إلا وفقاً لمعياري الصواب و الخطأ ، و الفكر لا يُواجه إلا بالفكر..

فلا يصح إذن الحكم بالفسق أو الفجور أو السفه أو ما هو أخطر من ذلك ” الكفر ” و الذي هو النهاية المنطقية لسلسلة الأحكام المتعسفة هذه و هي أمور طالت في المنابر المختلفة حتى بعض الرموز الإسلامية كالدكتور/حسن الترابي والسيد/الصادق المهدي إمام طائفة الأنصار و هذا هو أخطر داء أبتليت به الأمة الإسلامية و هو واحد من أهم ” إن لم يكن أهم ” أسباب التخلف و الجمود و التقهقر الذي رزئت به المجتمعات الإسلامية في عصور إنحطاطها الحضاري و ضمورها الفكري و من هنا فنحن نؤكد بأن شيوع التكفير بديلاً عن التفكير مؤذن بخراب العقول و خراب العمران و مؤدى إلى مزيد من تخلف و جمود و تكلس الأمم و المجتمعات الإسلامية .

إن ما كتبه الأستاذ / علي يس في مقاله المشار إليه أعلاه لم يخرج به عن دائرة الفكر و دائرة الإجتهاد و الذي وسيلته العقل، و الذي هو أمر ينفتح ليسع كل مسلم بقدر طاقته ، و لا ينغلق بحسب ما هو شائع في كتابات معظم الفقهاء القدماء لينحصر في طائفة محددة لا يتعداها لها وحدها الحق في الإجتهاد أو التجديد ؛ فالإسلام كدين لا يعرف و لا يعترف بـ ” الكهانة ” أو ” رجال الدين ” أو ” المؤسسات الدينية ” أو ما يعرف ” بالدولة الدينية ” أو أي شكل من أشكال التنميط الذي ينحو بإتجاه إحتكار المعرفة الدينية و يضيّق من دائرة إستخدام العقل ويحد من الحركة الواسعة للمسلم فيما يتعلق بإستخدام العقل أو حرية الفكر و البحث و الإكتشاف سواء في ميدان الفكر و الأفكار أو ميدان الطبيعة و الأشياء على حد سواء ! و تأتي علامة التعجب التى وضعتها هنا لتشير لمحاولات من يجتهدون في تضييق هذه المساحات و التى تأبى عليهم بحكم طبيعة و جوهر الدين الإسلامي نفسه .

لقد أتت الأديان السماوية قاطبةً لتوضح للإنسان ما لا يستطيع بواسطة عقله بحكم طبيعة تركيبه أن يصل إليه و هي ما يتعلق بالغيبيات ( الله ، الملائكة ، اليوم الآخر ، الثواب و العقاب .. ) و حرمّت أشياء ووضعت تشريعات محددة يتوجب على من يؤمن بهذه الأديان أن يتبعها ؛ ثم تركت ما دون ذلك لحكم العقل و تراكم المعرفة و تطور الخبرة البشرية و هذا هو عين ما أشار إليه المفكر الإسلامي الباكستاني / محمد إقبال في كتابه ” تجديد التفكير الديني في الإسلام ” عندما أشار إلى : أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها و ذلك للإدراك العميق لإستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على وقود يُضاء منه و أن الإنسان لكي يُحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو ! . و ليس أفضل من العقل وسيلة لبلوغ ذلك و من هنا كانت الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ومن الحكمة الإمتثال لقوله تعالى:  ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) الأنعام : (108) ومن ثمّ فليس السباب و الشتم بالوسيلة المثلى للتعامل مع الفكر أو مع الآخر المغاير لنا أو المختلف معنا .

لم تخلو الكتابات و الردود التى وُجهت للأستاذ / علي يس ( كما سبقت ذلك تلك التى وجهت لمن سبقه ممن أشرنا لبعضهم آنفاً ) من الأخطاء التى يتعلق بعضها بطبيعة الفهم و بعضها بطرق الإستدلال و سأكتفي هنا بإيراد بعض ما ورد في كتابات د. عارف الركابي ” الحق الواضح ” تحت عنوان ” و من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب ” و أول ما أبدأ به هو العنوان إذ جعل الدعوة لإستخدام العقل و الإجتهاد ” فن ” إختص به فئة دون أخرى و هو مايناقض جوهر دعوة الدين الإسلامي للتفكر و التدبر و التعقل و الإستبصار لكل مسلم ، ثم أنه أخطأ في متابعة ما قرأه في بعض كتب الفقه فيما يتعلق بتعريف الصحابي و الذي هو فضفاض و غير دقيق و لا يفي بالغرض الذي ندب نفسه مع غيره للدفاع عنه ! و تعريف الصحابي متعددة عند القدماء يتسع بعضها ليشمل كل من رأى الرسول عليه الصلاة و السلام من المسلمين و لو لمرة واحدة و يدخل في ذلك الأطفال و الذين أسلموا و بايعوا ثم رجعوا لمناطقهم .. إلخ.

وعليه فالتعريف الصحيح للصحابي من وجهة نظرنا هو من لقى الرسول عليه الصلاة و السلام فصدقه وآمن به ثم لزمه فترات تطول لتجعله مستوعباً لمعظم إن لم يكن كل ما قاله أو فعله الرسول ( ص ) ثم مات على ذلك و هذا يشمل عدد ليس بالقليل من السلف الصالح عليهم رضوان الله . أما إيراده لمقولات الأئمة الكبار و منهم إبن عباس فهو يدل على أن الأصل هو القرآن و الصحيح الثابت من السنة النبوية و ما دون ذلك فهو قول رجال و هو إجتهادهم و لكل عصر رجال و لكل زمان إجتهاداته بما يوافق مستجدات الحياة و تطور الإجتماع البشري ، أما الأحاديث النبوية فلم يقطع أحد من السابقين على الإمام ” البخاري ” بإجماع الأمة على صحتها كلها و ذلك لإستحالة الإجماع في الأمور النظرية و إمكانه في الأمور العملية و هو أمر قد سبق إلى تقريره الفقيه
و الفيلسوف و قاضي القضاة و أحد أعمدة الفقه المالكي في الأندلس أبو الوليد أحمد إبن رشد الملقب بالحفيد في كتابه ” فصل المقال و تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الإتصال ” بل إن ” صحيح البخاري ” نفسه دليل على ما ذهبنا إليه إذ إستخلصه ( أربعة آلاف حديث في أرجح الأقوال دون المكرر ) من ستمائة ألف حديث نسبت جميعها للرسول ( ص ) و في ترجمة الإمام / أبو الحسن السندى للإمام / البخارى و الذي أخذه عن ( شرح الشبرخيتى على الأربعين النووية ، و إبن خلكان ، و مفتاح السعادة ، و طبقات السبكى )  يذكر أنه ( أى البخارى ) قد تنازعته المذاهب الأربعة و الصحيح أنه مجتهـد . أ .هـ ، و الإجتهاد من صفات البشر الذين قد يصيبون الصواب و قد يخطئونه و في كلا الحالين فلهم أجر ؛ و تعريف الإجتهاد عند الفقهاء المستنيرين هو بذل الجهد .. غاية الجهد في سبيل الوصول للظن!

و عليه فلا يصح الخلط بين السنة القولية و بين السنة العملية ؛ فالسنة القولية غير مقطوع بصحتها كلها و لا إجماع حولها فلا نعدم من يرفض صحيح البخارى جملةً و غالب الشيعة يدخلون ضمن هؤلاء و هم مسلمون يشهدون ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، أما الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و سائر شعائر الدين التى تدخل ضمن السنة العملية فهي مقطوع بصحتها بالكيفية التى وصلت بها إلينا و الإجماع ينطبق عليها فلا يخرج عليها أحد إلا خرج عن الدين ؛ هذا فضلاً عن تقسيم السنة نفسها تقسيمات أخرى فمنها سنة عادات و سنة عبادات .. إلخ .

إن الإسلام دين قوي بإعتماده للحريات بشكل عام و للحرية الفكرية بشكل خاص و بإستناده على العقل المسترشد بموجهات الوحي ؛ فلم يخلق الله تعالى خلقاً أكرم عليه من العقل فبه يعطي و يثيب و به يأخذ و يعاقب ، و هو محفوظ بما تعهد به المولى عزّ و جل (  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر : ( 9 )
و كذلك السنة النبوية محفوظة بما توافق مع النص القرآني و أحكامه فهي لا تستقل بالتشريع ؛ و من ثمّ فإن محاولات نفي العقل و غلق باب الإجتهاد يضاد روح و جوهر ما دعا إليه الإسلام .

إن هذا المقال لا يأتى دفاعاً عن الأستاذ / علي يس فهو صحفي و كاتب متمرس و هو أقدر على الدفاع عن آرائه و ما يؤمن به ، و لكنه  دفاع عن حرية الفكر و عن حرية الإجتهاد و عن ضرورة العقل ، فالفكر هو أضعف حلقات الأمة الإسلامية منذ أفلت حضارتها منذ قرون عديدة بسبب من التضييق على الحريات
و معاداة العقل و إرهاب المفكرين ، و الإجتهاد هو في تقدير الكاتب ” الفريضة الغائبة حقاً ” و التى لن يكتب لنا تقدماً أو تحضراً أو مواكبةً دون اللجوء إليها دون خوف أو وجل .

لقد كانت الصحافة السودانية في القديم و في بداياتها أكثر إنفتاحاً و أوسع حريةً مما هو مشاهد اليوم ( كتابات حمزة الملك طمبل و معاوية نور و محمد عشري الصديق و محمد أحمد محجوب و صلاح أحمد إبراهيم و غيرهم ) و لكنها كغيرها من مناحى الحياة في السودان أضحت تجنح نحو التضييق و الإنغلاق و القمع و الإرهاب الفكري وهو أمر ينذر بشر مستطير ما لم يتم تداركه من قِبَل أصحاب الفكر و الأقلام التى تؤمن بالحرية و بالعقل و بالحق في النقد و الحق في الإختلاف و الحق في الإجتهاد .

أخيراً فإن للكاتب منتدى تحت عنوان ( واقع حرية الفكر في العالم العربي و الإسلامي المعاصر ) أقيم في شهر أغسطس من العام 2011م بمركز التنوير المعرفي و نشر كورقة علمية في المجلة التى يصدرها المركز ( مجلة التنوير )  في العدد ( 12 ) الصادر في شهر يناير 2012م و هو و إن لم يخلو من مقص الرقيب إلا أن ما نشر منه يفي بإيضاحات أعمق و أوسع من أن يحتملها المقال الصحفي فيما يتعلق بحرية الفكر و الحق في الإجتهاد .. فيمكن للباحث عن الإستزادة الرجوع إليه ، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما فيه مرضاته و خير الأمة و البشرية جمعاء .

[*] باحث في الفلسفة والفكر الإسـلامـي، رئيس دائرة الفلسفة بمركز التنوير المعرفي ورئيس نادي الفلسفة باليونسكو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى