أعمدة رأي

خدعوك خدعوك فقالوا: الجهاد لرفع راية الإسلام..!

أ.د. عامر عباس حمد [*]

إن الجهاد قيمة إنسانية، وفضيلة أخلاقية، وسمة حضارية من الطراز الأول، لم تسبق إليه أمة من الأمم قبل الإسلام، ولم تصل الإنسانية إلى روحه وجوهره إلا مؤخراً.. ومؤخراً جداً، نعم هو كذلك ولكن بشروطه.

فما هو الجهاد؟ وما هو السائد عن الجهاد؟ وما هو الصحيح في تعريف الجهاد؟

حَسَبَ السائد الشائع في كتب الفقه، فإن الجهاد هو قتال الكفار والمحاربين، وله أنواع منها :

  • جهاد الكفار والمحاربين باليد والمال واللسان.
  • جهاد الفساق باليد واللسان والقلب.
  • جهاد الشيطان بدفع ما يأتي به من الشبهات.
  • جهاد النفس بتعلم أمور الدين ومغالبة أهوائها.

إن ما ورد أعلاه في تعريف الجهاد بشكل عام، يمكن أن يقبل إذا فهم في إطار الدفاع عن النفس ورد المعتدين أو في إطار رفع البغي والظلم والإكراه وإقرار حرية العقيدة والضمير والاختيار. وذلك ما كان مطبقاً ومعمولاً به في أول العهد النبوي ونزول الإذن والتكليف بالاضطلاع بعبء الجهاد، وهو ما سار عليه الخلفاء الأوائل في تعاملهم مع محيطهم الجيوسياسي، وكان الأمر واضحاً بالنسبة اليهم ولا لبس فيه، إلى أن تحول الأمر إلى الملك العضود وتأسيس الامبراطوريات من لدن الدولة الأموية، وحتى سقوط وانهيار الدولة العثمانية التركية. ثم بظهور الجماعات المتطرفة سياسياً ودينياً، والتي تدعو لإعادة إحياء الخلافة الغابرة المُدعاة، كجماعة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة حسن البنا، وتوابعها من جماعات التطرف، كالهجرة والتكفير وأنصار الشريعة، وكجماعة المسلمين لأبو الأعلى المودودي والندوي في باكستان، وكالجبهة الإسلامية بقيادة الترابي في السودان، وكحركة النهضة بقيادة الغنوشي في تونس، وكالجماعة الإسلامية بقيادة علي بلحاج وعباسي مدني في الجزائر … إلخ.

ثم بظهور القاعدة بقيادة أسامة بن لادن في أفغانستان، وداعش لأبي بكر البغدادي في العراق وسوريا، كأوضح تجلي وتجسيد لسوء فهم من جهة، وسوء توظيف من جهة أخرى، لدعوة الجهاد بحيث أفرز ذلك نقيض ما شرع الجهاد لأجل تحقيقه وإقراره، وذلك عبر منظومة من الأحاديث المبثوثة في كتب الصحاح، التي لا سند لها من صحيح المنقول، وينكرها صريح المعقول، وتتأبى على الاتساق مع مبادئ الإسلام الرفيعة، وقيم القرآن السامية في ما يتعلق بالحريات وحرية الضمير، وفقاً لقوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة). كما في ما هو منسوب للرسول الكريم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل (مسلم)، وكما في إدخال محض الردة ضمن جرائم الحدود وفقاً لما هو منسوب للرسول الكريم: من بدل دينه فاقتلوه (البخاري).

إن مفهوم الجهاد بشكله الشائع، إنما هو في حقيقة الأمر مجتزأ عن سياقه، وهو فرع من أصل عام هو: الجهاد الدعوي ونشر الإسلام كعقيدة وفكر، وهذا لا يكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بما هو أحسن: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (النحل)، وليس السيف والقتال بالأحسن! وإختزال الجهاد في القتال فقط، لهو من الأخطاء الشائعة التي استقرت في أذهان الناس، بسبب من التوظيف السياسي لهذه القيمة الكبرى في تأسيس الدول وبناء الامبراطوريات من زاويتين: فمن جهةٍ أولى حيث نجد أن السلطة السياسية، بعد تحول الأمر لملك عضوض في العصرين الأموي والعباسي الأول، هي من حرفت ورسخت لهذا الوضع الخاطئ، والذي أصبح يعني الحرب الدائمة ضد الآخر المختلف، وإمتد ذلك عبر العصور ليجد له حواضن طبيعية، كما أشرنا لذلك سابقاً في ظهور وتنامي حركات الإسلام السياسي بشعاراتها التضليلية، وأسلوبها المخادع تحت وهم بناء (الدولة الاسلامية)، بحيث صار كل من الجهاد والتكفير رايات مرفوعة بين الدول والمجتمعات المسلمة في ما بينها، أو في ما بين بعض المسلمين وبقية الطوائف الأخرى المشتركة معهم في حق المواطنة والانتماء، ويا لها من مهزلة، ويا له من تهريج وإنحطاط! ومن جهةٍ ثانيةٍ أخرى، عبر قوة العصر وثقافته السائدة وقهر السلطة، بما أجبر الفقهاء والمحدثين على الأخذ بما يتفق ورغبة العصر والسلطة وبما يتماهى معها على الدوام!

ولقد نتج عن ذلك كثير من المفاهيم المغلوطة كتقسيم العالم لقسمين: دار الإسلام ودار الحرب أو المقابلة بين الدين والكفر، وما يسمى بعقيدة الولاء والبراء أي موالاة المؤمن والتبرؤ من غيره مجتمعياً. وكإستمرار وتأبيد وضع أهل الذمة، ودفع الجزية… إلخ، بحيث لم نعدم من يطالب بإعادة تطبيق كل ذلك مرة أخرى في مجتمعاتنا ودولنا المعاصرة! حيث رأينا ذلك في مصر، وعايشناه في السودان بتحويل حرب الجنوب السياسية المطلبية لحربٍ دينيةٍ مقدسة، تحت راية الجهاد لنشر الإسلام. تلك الحرب التي نُسِجَت حولها العديد من الخرافات والأساطير المثيرة للشفقة، وكانت كلفتها البشرية والمادية كارثية على السودان وكل دول المنطقة..! إذاً لقد شرع الجهاد القتالي فقط لرد العدوان ورفع الظلم الهادف للإكراه أو القسر، وحجب حرية الإختيار، وهو فرع صغير عن أصل كبير هو جهاد الدعوة والتبليغ.

إن الهدف الأساسي، إذاً، من الجهاد القتالي، هو دفع العدوان أو صون الحريات، وضمان حرية الضمير، وحفظ الحق في إختيار الكفر، وإنكار وجود الخالق نفسه، والذي هو الضامن الأول والأوحد لهذا الحق، مع إحتفاظه بحق العقوبة على الكفر والإنكار في اليوم الآخر! وهذه لعمري قيمة حضارية وإنسانية لم تصل إليها البشرية طيلة مسيرها إلا مؤخراً جداً، وبعد دفع كلفة كانت باهظة جداً على مدار العصور، وذلك إبان ازدهار الحضارة الغربية المعاصرة بحيث تم تضمينه، أي الحق في حرية الضمير، في مواثيق وعهود الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 1948م، وبحيث أعتبر ذلك فتحاً حضارياً ما بعده فتح، وصارت الدولة المدنية العَلمانية هي أرقى أشكال الدول والممارسة السياسية، التي تحفظ وتصون هذه الحرية، وتحقق المساواة بين البشر على أساس المواطنة والكرامة الإنسانية، وتمنع بالتالي ما ترتب على تغييبها من كوارث وصراعات ودماء وتشويه.

إن الذين يختزلون الجهاد في القتال فقط، ويصورونه باعتباره ضد الكفر وضد الكفار، من وجهة نظرنا كمسلمين، أي أولئك الذين لا يؤمنون بمحمد ولا يدينون بالإسلام، لا يعدمون سنداً من الإرث الفقهي الداعي لذلك، على طول تاريخ الفقه وعرضه، إلا أننا لن نعدم مثالاً صارخاً على ذلك (إنْ أردنا)، إذ نجد مثلاً أن الإمام الشافعي، قد انفرد وحده من دون الفقهاء الكبار في كتابه (الأم)، بالنص صراحة على أن علة القتال هي الكفر، وليس العدوان، وهو في تقديرنا أمر مجانب للصواب، ومناهض للحكمة من مشروعية الجهاد نفسه.

إن مسألة الآخر المختلف بكل أشكال الاختلاف العقدية والثقافية واللونية .. إلخ، لهي أمر محلول في إسلامنا الصحيح وفي قرآننا الذي نقرأه نعم، ولكننا لم نفهمه بعد، لأن على قلوبنا أقفالها، وفوق ذلك فهي من القضايا التي تجاوزها تطور البشرية الحضاري في العصور المتأخرة، سواء بالأمر الواقع عبر التفوق الحضاري والثقافي، أو عبر الإقرار والاعتراف بالحق في الاختلاف وحرية الضمير، من قبل المجتمع الدَّوْليّ أو عبر التفوق العسكري والتقني الهائل لهذا الآخر، بما يجبرنا فعلياً وعملياً على العودة لما لم ندركه سابقاً، بعقولنا وبفهمنا المجرد.

إن الجهاد سُنَّةً ماضية، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا شئ يعدله في المثوبة، كل ذلك صحيح ولكن بشروطه الواجب معرفتها وتحديدها، كما أوضحنا سابقاً، وبحيث تتحقق فيه النية الخالصة لإعلاء كلمة الله، وكلمة الله ليست هي إدخال الناس في الدين بالسيف، ولكن هي منع الإكراه والتسلط على العباد، وإتاحة حرية الدعوة وضمان حرية الضمير. والناظر في القرآن لأحوال الأمم السابقة، يجد بوضوح أنه ما من أمة حَلَّ بها العذاب الإلهي، إلا عقب لجوئها للقوة والعنف والجريمة لمنع حرية الدعوة، أو لحجب الحرية في الاختيار وليس لمحض الكفر، وقد كان الأمر وشيكاً على أمة الإسلام الأولى، حيث خُيِّرَ الرسول الكريم في ذلك أولاً، ثم أكرم الله قومه به وافتداهم في الدنيا، مع دوام الاستغفار كما أخبر: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله بمعذبهم وهم يستغفرون (الأنفال). ولقد ذهبنا في مجانبة الصواب، ولا شك عندي مطلقاً أن الجهاد الأكبر لهو فعلاً كامن في جهاد النفس، وهو ما يأخذ حكم فرض العين، وما القتال وحمل السلاح إلا الجهاد الأصغر، وهو فرض كفاية إلا إن استوجب غير ذلك.

أقول ذلك على الرغم من أن الأقدمين قد ضَعَّفوا هذا الحديث، برواية البيهقي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، ثم ذهبنا في مجانبة الصواب مذهباً بعيداً، بالأخذ بأخرى على شاكلة: من مات ولم يَغزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق (أبو داؤود والنسائي)، في حين يقول الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة كتب لا أصل لهم التفسير والمغازي والملاحم، وهو ما يحيل لقضية غاية في الخطورة، تتمثل في هروب غالب الفقهاء والمحدثين من القرآن إلى الأحاديث، ومن الأحاديث إلى أقوال الأئمة، ومن أقوال الأئمة إلى المقلدين، ومن المقلدين وتزمتهم إلى الجُهَّال وتخبطهم. وبحيث صار القرآن فرعاً، بعد أن كان أصلاً، وتابعاً بعد أن كان متبوعاً، وموزوناً بغيره بعد أن كان ميزاناً.

باسم كثير من المفاهيم الخاطئة، وتحت راياتها، سُفِكَت دماءٌ كثيرة، وأُهْدِرَت أرواحٌ غالية، ودُمِّرَت دول، ومُزِّقَت مجتمعات، وتبددت ثروات، وضاعت أجيال، وكان الحصاد المُر لكل ذلك، هو حالة التخلف والتشظي والإنهيار الدائم والمزمن في عالمنا العربي والإسلامي. لقد كتب في ذلك، ونَبَّه إليه كثير من مفكرينا وعلماؤنا الأفاضل، من ذوي الاستنارة، كعبد الرحمن أبو زهرة، وصبحي المحمصاني، ووهبة الزحيلي، ورضوان السيد، وجمال البنا وماجد خدوري وغيرهم وغيرهم، ولكن ما الحل إذا كانت أمة اقرأ قد تحولت إلى أمة أذبح وأقتل، وليس لها من القراءة حظ ولا نصيب، لا قراءة الكتاب المسطور ولا الكتاب المنظور.

إذاً، عزيزي القارئ فقد خدعوك، حين قالوا بأن الجهاد لرفع راية الإسلام وما هو بذلك..

[*] وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هيئة الطاقة الذرية السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى