عبدالمالك أشهبون
في البداية، وجب التوكيد، على أن صورة الرجل العربي في روايات الصراع الحضاري بين الشرق والغرب تتميز
بكثير من السمات الثابتة، وهذا ما تشي به أغلب الصور التي تجلت فيها في تلك الروايات، بالإضافة إلى ما تضمره تلك الصور النمطية من مرجعيات فكرية وأيديولوجية وثقافية ودينية؛ وبالتالي فإن هذه الصور النمطية قد تكشف لنا عيوب ما هو مضمر في كل من النسق الثقافي العربي باعتباره نسقا ذكوريا، لكن هذه الأمر لا يخلو من رد فعل ينجم عن الرؤية المضادة للرؤية الذكورية، وهو رد فعل يسقط في فخ معاداة الرجل العربي؛ كأنه هو المسؤول عن ترسيخ ذكوريته في عالم عربي جدّ معقد في تكوينه النفسي والاجتماعي والديني.
صحيح أن الوعي الذكوري العربي حاضر منذ قرون، وصحيح أيضا أن هذا الوعي يتصور المرأة وعاء لأحد أمرين: إما لتفريغ المكبوت الجنسي أو لنمو الجنين، وكأنها جوَّالٌ يُمْلأُ أو آنيةُ من فخار يتم طهي الوجبة المختارة فيها (فرانسواز إيرتييه: “ذكورة وأنوثة. فكرة الاختلاف”، ترجمة كاميليا صبحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003، ص 98). ولا ينظر إلى العلاقات بين الرجل والمرأة من منظور جدلي، تراعى فيها الحيوية الذكورية من جهة، والخصوبة الأنثوية من جهة ثانية، في تفاعلهما الإنساني المنتج والخلاق، الذي يفترض أن لا غنى لأحدهما عن الآخر.
وبالعودة إلى الرواية العربية، لا نعدم روايات بقلم روائيات تتسم بالتمركز حول الشخصية الأنثوية، وتجليات هذا التمركز يمكن رصده من خلال دوران الرواية من بدايتها إلى نهايتها حول موضوع مهيمن هو المرأة، حيث تصبح فيها الروائية هي الساردة والبطلة أحيانا، هي الذات والموضوع، وهذا الأمر يكشف لنا نزعة ذاتوية باتت تطبع كتابات بعض الروائيات العربيات، حين يغدو العمل الروائي مبأرا حول الهوية الجنسية الأنثوية في تفاصيلها الصغرى والكبرى، وهذا ما يفسر لنا ظاهرة تضخم “الأنا” في الأدب النسائي عامة، والروائي منه خاصة…
وفي هذا السياق نستحضر رواية “إنها لندن يا عزيزي” للروائية اللبنانية حنان الشيخ، حيث نلفي أن الرواية تجمع ثلاثة أبطال هم: لميس العراقية الجميلة، وأميرة المومس المغربية، وسمير اللبناني المثلي، إذ يلتقي هؤلاء على متن طائرة تتجه من دبي إلى لندن، وهناك تتقاطع حياتهم مجدداً في قلب عاصمة الضباب، بكل ما لها وما عليها.
صورة الرجل العربي المغضوب عنه
ما يجب التشديد عليه، في هذا السياق، هو ذلك الحضور القوي للنزعة النسوية في هذه الرواية بالذات، حيث الشخصية الرئيسة “لميس”، وهي المرأة العراقية المطلقة، تختصر معاناتها كلها في ديار الهجرة مع زوجها، وما ترتب عن زواجها به من أزمات نفسية وجنسية تركت ندوبها العميقة في ذاتها المكلومة. كما تعدد الصور المبثوثة في تضاعيف هذه الرواية عن الرجل العربي وكلها تتسم بالسلبية، ومن أبرز هذه الصور نذكر ما يلي:
1ـــ صورة الرجل العربي المهووس بالجنس
من الأمور التي تشكل اقتناعا راسخا لدى شخصية لميس هو أن علاقتها بزوجها السابق، كانت علاقة جنسية فقط، علاقة خالية من الأحاسيس والعواطف. أما شخصية أميرة المغربية، فقد دفعها اقتناعها الذي لا محيد عنه، ومن خلال تجاربها المتعددة مع الرجال، إلى خلاصة مؤداها: أن الرجل (عموما) لا يرى في المرأة إلا جسدها، ولا هدف له منها سوى ممارسة الجنس، وأن الرجل عندما ينتصب يقل عقله… من هنا جاء احترافها لمهنة البغاء عن اقتناع استخلصته من علاقاتها المتعددة بالرجل عموما.
2 ـــ صورة الزوج المغتصب لزوجته
تستعيد لميس سيرتها الزوجية فتذكرنا بأنها تزوجت غصباً عنها رجلاً تصفه دائماً بالعراقي، وكأنها تحدد المسافة مع حضارة أخرى (الشرق) لم تعد تنتمي إليها وهي في ديار الغربة، وذلك إرضاء لأمها التي توسلت إليها أن تقبل بالعريس الثري الذي قد ينتشل أسرتها من الفقر ويعيد إليهم كرامتهم.
ومن خلال تجربة لميس، وهي المرأة العراقية المتلهفة للحرية والانعتاق بعد تجربة زواج قاهرة دامت اثنتي عشرة سنة، ها هي تتذكر أسلوب مراودة زوجها السابق (العراقي)، وتقارنه بأسلوب تغزل حبيب قلبها البديل (نيقولاس الإنكليزي)؛ ففي مراودتها جنسيًا يبدأ زوجها بسؤال روتيني مبتذل «هل أنت نائمة؟”، وحينما تعطيه الإشارة أنها ما زالت مستيقظة، يبدأ الاحتكاك الجسدي بطريقة آلية، حيث ينقض عليها كالوحش خلالها «يمضي وحده كسَهمِ ألعابٍ ناريةٍ يصعد بلمحِ البصر ثم يَخِرُّ هابطًا” (حنان الشيخ: “إنها لندن يا عزيزي”، دار الآداب، بيروت، 2009، ص 154). وهذا النوع من الممارسة الجنسية العنيفة، عادة ما كان يسبب لها ألمًا فظيعًا كألم الاغتصاب؛ بحيث لم تكن تشعر بأيّ نشوة جنسية مع شريكها العراقي في فراش الزوجية. فقد كان هذا الزوج العراقي يحب جسد زوجته السابقة، ولكنه – على ما يبدو- لم يكن مؤهلًا لنسج علاقة عاطفية معها، مثلما كانت تحلم بذلك وتتمناه؛ لأنها تعتبره من عينة الرجال الذين يرغبون في جسد المرأة من غير متعلقات عاطفية مصاحبة لهذه العلاقة الثنائية.
هكذا رسخت حنان الشيخ الصورة ذاتها عن الرجل العربي، باعتباره شخصية غاوية، مستهترة، ماجنة، بحيث لا تكف عن الجري وراء شهوتها الجنسية، نابذة كل القيم الإنسانية الأصيلة، متمسكة فقط بما يروي ظمأها الجنسي المستعر.
3 ــــ صورة الرجل المستعد للقتل بسبب الشرف
بما أن الشيء بالشيء يذكر، تتذكر أميرة العاهرة ـــ في هذا السياق ـــ حكاية الطالب الجامعي العربي الذي كان يحضِّر أطروحة عن انتقال المجتمع العربي. وقد رضيت أن تقابله وتجيبه عن أسئلته، بناء على توسط أحد زبائنها. يومها سألته ماذا يفعل لو عرف أن شقيقته امتهنت مهنتها؟ وكان الجواب الصادم لها هو “أغمد السكين في قلبها فقط” (المرجع نفسه، ص 380).
وهنا تضعنا الروائية أمام طرف واحد يمارس العنف، وهو الرجل مع أن العُنفُ ومشتقاتُه يحضر في المجتمع العربي بشكل مؤسسي ومُمنهج، يعترفُ به المجتمع، ويُمارسه الرجلُ ضد المرأة، أو ضد الرجل نفسه، كما تمارسه المرأة ضد الرجل أو المرأة ضد المرأة نفسها في كثير من الحالات، وعُنف المرأة ضد المرأة، أشدّ وأدهى وأمرّ؛ لأنّ المرأة تعرفُ مَقاتلَ المرأة فتُصيبُها إصابات بالغةً في نفسيتها من غير أن تترك آثاراً عينيةً، ويقود ذلك إلى عنف الأم مع ابنتها، ومع أختها، والحَماة مَع كنَّتها غالبا وهكذا دواليك…، وهي نماذجُ من العُنف والقَهر النفسي تُمارَس على كل من الرجل والمرأة؛ فيُقرّها المجتمعُ إقرارا مسكوتا عنه، ويعترفُ بنتائجه ثُبوتياً في مجتمع ذكوري ومتخلف، وفي سياق سلطة سياسية مستبدة.
4 ـــ صورة الرجل العربي البيدوفيلي
تُعرف شخصية البيدوفيلي بأنها تميل عادة إلى عِشْقُ الأَطْفال، والتحرش بهم، أو إقامة علاقة جنسية معهم. فما تزال أميرة تتذكر صورة زوج خالتها ماثلة أمامها، وهو يشدُّ يدها الصغيرة غصبًا عنها، ويضعها على عضوه التناسلي، إلى حين اغتصابها، مما دفعها إلى محاولة الانتحار كرد فعل على ذلك الفعل المشين، لتجد ملاذها الأخير في ديار المهجر بعد أن ضاقت ذرعا بأنواع من التحرش، والاضطهاد الجنسي في وطنها الأم.
5 ـــ الصورة الانقسامية للرجل العربي
من خلال الزبائن الذين ترددوا على أميرة العاهرة في مدينة الضباب بالمهجر: عرب من شبه الجزيرة العربية، والمفارقة أن هؤلاء يقدمون صورة شريفة عن أنفسهم في بلادهم، وعندما يهاجرون إلى بلاد الحرية الفردية، ينقلبون من شرفاء وعفيفين إلى شخصيات ماجنة ومستهترة ولاهثة وراء اللذة المحرمة في بلدانهم.
ثانياً: صورة الرجل الإنكليزي المرضي عنه
مقابل ما سبق، تقدم حنان الشيخ صورة إيجابية عن شخصية “نيقولاس” الإنكليزي الذي بدا أنه هو المعوَّل عليه؛ فهو محل ثقة، وبمثابة الزوج المنتظر، والحبيب العفيف، وما إلى ذلك من الصفات التي أسبغتها الروائية على هذه الشخصية التي تبدو صورة الرجل المثلى. ومعلوم أن “نيقولاس” عامل بسيط، سيتحول إلى العمل لصالح رجل أعمال عُماني اسمه “سيف”. ينجز لصالحه صفقات تجارية هامة ومربحة. وقد أغرم نيقولاس بالبلاد العربية وما تزخر به من تحف وعراقة. كما أغرم بلميس، وهي المرأة العراقية المتلهفة للحرية والانعتاق، خصوصا بعد تجربة زواجها الفاشل. فعندما تستشير لميس صديقتها أميرة في شأن مصير علاقتها بالرجل الإنكليزي الذي يحبها، وهي حائرة في الارتباط به رسميا كما طلب، كان رد أميرة غير المتردد هو “لأنه يحبك… والإنكليزي عندما يحب يريد الزواج، والعربي عندما يحب يتزوج أخرى” (نفسه، ص 314). عند ذاك فرحت لميس؛ لأنها مطلقة، بعدها استسلمت لقبلة نيقولاس عندما التقت به في صالة العرض، فبعد لحظات معدودة انزاح عنها ضياعها ووحدتها، “كأن كل ما أرادته هو رجل يقبّلها كما قبّلها نيقولاس في ليل لندن” (نفسه، ص 96). هكذا عرفت مع الرجل الإنكليزي معنى الحب ووصلت النشوة الجنسية، وحققت المساواة في العلاقة دون تمييز أو تقصير أو تنقيص من قيمتها. فما يميز نيقولاس عن غيره من العرب والغربيين هو أنه لم ينظر إلى “لميس” باعتبارها متاعا، بل زوجة ومشاركة في الحياة، حتى أنه رغب، كما توضح الرسالة الأخيرة المفاجئة، في الزواج من حبيبته ليس لأنها عربية، ولا لأنها مطلقة، ولا لغاية مادية خارجية سوى أنه أحبها، وتعلق بها منذ أول لقاء عفوي على ظهر الطائرة.
ويظل نيقولاس الإنكليزي المختلف عن باقي الشخصيات الإنكليزية الواردة في الرواية: كزوج “ناهد” الأول الذي اعتبر المجتمع المصري مجتمعا متخلفا، لا يحترم حقوق الحيوان. وهو يرى بروز ضلوع الحمار، أو أولئك الذين لا يرون في الشخصية العربية إلا الثراء والإنفاق الكثير والتبذير. وهنا نشير إلى أن حنان الشيخ تعرض لعلاقة الشرق بالغرب لا بالطريقة التي تناولها الرواد )توفيق الحكيم/الطيب صالح/سهيل إدريس…) في روايات الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، بل من خلال العلاقة على وجهها المعاكس والأعقد: أي علاقة المرأة العربية بالرجل الغربي عموما، والإنكليزي تحديداً.
هكذا تغدو رواية “إنها لندن يا عزيزي” خطابا متضمنا لتصور أيديولوجي مستبطن، يختزل صورة الرجل العربي في الزوج الشبقي، أو العنيف، أو الأناني، أو الخائن، أو المغتصب للأطفال. وكأننا أمام خطاب روائي يعكس تصورا، يمثله الاتجاه النسوي بوصفه الاتجاه الذي يجاهر بعدائه المسرف للرجل، وشهوة الانتقام منه، وهنا تكون الرواية غير محايدة في رؤيتها للعالم، والأشخاص والقَضايا، وكان لسان حال الروائية أنها تقفُ في مَوقعٍ المدعي العام في محكمة أصبح فيها المتهم (رمز الشر) هو الرجل، فيما تغدو فيه المرأة هي الخير، كل الخير، وانطلاقا من هذه الثنائية المانوية، تظل المنطقة الرمادية تنتظر كل من يروم البحث عن صورة المرأة والرجل في مواصفاتها الواقعية، التي تنبع من صلب المجتمع، لا التي يتم إسقاطها عليه دون تمييز.
هذه الصور المنحرفة عن الرجل العربي، ما لبثت أن تسربت إلى المتخيل الروائي النسائي، فأصبحت، جزءًا من تصورها لعلاقة الرجل بالمرأة عامة، وللعلاقة العاطفية بينهما خاصة. وهي صور سلبية تجلي لنا حِقدا دَفينا ومُعْلَنا تجاه الرجل لا لشيء إلا لأنه رجل، سواء أكان ظالما أو مظلوما. وبهذا المعنى، تغدو هذه الصور السلبية في بعض الروايات رد فعل لا مبرر له، سوى إعادة إنتاج الصورة الذكورية نفسها تجاه المرأة، حيث يدرك القارئ الحصيف للرواية ـــ في النهاية ــ أن الروائية مُنحازة ومتحيِّزة لخطاب نسواني متطرفٌ.
من هنا باتت هذه الصور عن الرجل العربي نمطية، ومتداولة ورائجة، بل ويأنَسُ بها المتلقي/المرأة خصوصا، ويباركها كما بات الرجل ـــ بموجبها ـــ هو الرمز الحقيقي للطغيان والعنف والخيانة والشر، وكلها أوصاف تخفي داخلها حكمًا غير مطابق للواقع، يصنف الذكر العربي حسب ذكورته.
هذه الصورة المنحرفة وغيرها، هي التي ستعشش في ذهن المتخيل في عالمنا العربي، وتلهم خيال الروائيات العربيات اللواتي رأين إلى أن هذه هي الصورة الثابتة للرجل العربي في حله وترحاله في علاقته بالمرأة كيفما كانت: زوجة عشيقة، حبيبة، أختا بنتا؛ من هنا تهافت تعميم النظرة السلبية ضد الرجال، وضرورة الخروج من منطق نحن (النساء) مقابل، أو ضد أنتم (الرجال).
في هذا الصدد، تهمنا الإشارة إلى عنصرين أساسيين؛ أولهما: أن صورة الرجل قابلة للتغيير والتعديل رغم ما يبدو عليهما من ثبات، كما هي صورة المرأة نفسها هي الأخرى قابلة للتغيير. وثانيهما: أن ما يتشكل لدينا من صور حول ذواتنا أو حول الآخرين لا تكون دائما، وفي جميع الحالات، مطابقة للواقع المجتمعي، بل غالبا ما يختلط فيها الواقعي بالمتخيل، ويتداخل فيها الداخلي (أي رؤيتنا لحقيقة أنفسنا) بالخارجي (أي ما نريد إظهاره للآخرين من صفات خاصة بنا).
من المؤكد أن حنان الشيخ، حينما تصر على تقديم صورة سلبية عن الرجل العربي مقابل صورة إيجابية عن الرجل الغربي، من خلال انتقاء مواصفات بحد ذاتها وإلصاقها بهذا الطرف أو ذاك، فهي بهذا الصنيع تريد أن تثبت هذه الصورة السلبية للرجل العربي في أذهان قرائها، في حين تغيب عناصر أخرى لا تراها أو لا تريد رؤيتها أو الاعتراف بها حتى في هذا الموضوع.
في هذا الصدد ندعو الروائيين عامة والروائيات على وجه الخصوص، إلى ضرورة البحث الجدي عن رؤية جديدة؛ رؤية تعيد صياغة طرفي المعادلة (الرجل والمرأة)، الذات والموضوع، صياغة مناسبة، تقترب من الواقع، من أجل تجنب ذلك الغموض والالتباس في رؤية الرجل للمرأة أو المرأة للرجل كما يتم تمثليها سرديا في بعض الأعمال الروائية في ثقافتنا العربية، والتي تسيء إلى صورة كل من الرجل والمرأة على حد سواء، حين نجد بعض الروايات ذوات الاتجاه النسوي، يصدرن أحكاما عامة تدين كل الرجال، مع أنه في التاريخ، هناك رجال (أزواج، آباء، أبناء…) لم يسبق لهم أن ظلموا امرأة.
الجديد