علي الصرَّاف يكتب: التنمية وحملة الشهادات المزورة
الاقتصاد الحقيقي هو الاقتصاد الصغير والمتوسط. السباك والحداد والميكانيكي والطباخ والكهربائي والبناء هم في الواقع العجلات التي يتحرك على أساسها "الاقتصاد الكبير" أكثر بكثير من كل ما نعرفه من الشهادات العليا
تقليعة أن تكون “دكتورا” التي اندلعت في مصر منذ ستينات القرن الماضي وصلت إلى العراق بعد نحو نصف قرن على هيئة حملة لتزوير الشهادات، حتى أصبح كلُّ “مشتهٍ” دكتورا بين ليلة وضحاها.
التقليعة الأصل نفسها كانت نوعا من التزوير أيضا، لأن الغاية منها هي حمل اللقب وليس حمل أعبائه.
وكان المقابل الوحيد لهذا “الوَلَه” هو حمل النجمات العسكرية على الأكتاف، وظلّ المعنى واحدا. وهو أن اللقب (العلمي سابقا) أصبح مجرد نجمة توضع على الكتف. وكان ذلك مدخلا لعالم كامل من التزوير والمخادعات العامة التي أطاحت بكل ما لدينا من أدوات وفرص التنمية والتطوير والنهوض الاجتماعي والاقتصادي. وبدلا من أن يكون الحصول على شهادة عليا سبيلا للانخراط في وجهة عمل، فقد أصبح الحصول على الشهادة العليا غاية تتوقف عندها كل الغايات. وما كان ذلك إلا مشروعا لانحطاط شامل، وتبديدا مريعا للأموال التي تُنفق على التعليم، بل وتبديدا أشد ترويعا لملايين السنوات من أعمار الشباب ومن طاقاتهم على الإنتاج.
ذات يوم سألت عبد الحليم حجاج، وكان واحدا من كبار علماء العراق الذين ساهموا في بناء تجربته النووية، عن معنى أن يكون هناك برنامج نووي يسهل تدميره. فقال: البرنامج النووي العراقي، برغم كل ما وقع فيه من دمار، لم يكن قابلا للتدمير إلا بتدمير العراق ككل، وهذا ما حصل.
سألت بدهشة الجاهل: كيف، ولماذا؟ فقال: البرنامج النووي كان مشروعا صناعيا، من مختلف الأوجه. ولكي يكون لديك مشروع من هذا النوع، فإنك بحاجة إلى كل أصناف المهارات الفنية، ابتداء من السباكين والحدادين، إلى عالم الذرة. ولكي ينهض العراق بهذا المشروع فقد تفجرت، ليس الكليات بالمهندسين في مجالات الكيمياء والفيزياء والكهرباء، وبالتأكيد ليس بالدكاترة، وإنما بالفنيين المساعدين من خريجي المعاهد الفنية الوسيطة. وهؤلاء لم يكونوا عصب المشروع النووي وحده، ولكنهم كانوا عصب الاقتصاد ككل. ففي مقابل كل دكتور هندسة، فأنت ربما تكون بحاجة إلى خمسة مهندسين، ولكنك ستكون بحاجة إلى عشرين مساعد مهندس أو خريج معهد فني وأكثر منهم من العمال المهرة. وهذا يعني أن المشروع كان في الأصل مشروع نهضة صناعية، وتنمية خبرات وتحفيز أدوات الابتكار. ولم يكن مجرد مشروع تسلح. السلاح هو النهاية فقط، ولكن الطريق إليه كان هو الأهم.
تذكرت حينها، قصيدة قسطنطين كفافي الشهيرة “إيثاكا”. ذلك أن المشاق التي تصادفها في الطريق إلى إيثاكا هي مكسبك الحقيقي من الرحلة. وقد تكتشف أنه لا وجود لها أصلا، وأنها موجودة في نفسك فحسب، ولكنك بما جنيته من الحكمة والمعرفة، ستدرك أنك وصلت إليها بالفعل.
مؤسسات التخطيط في العالم العربي غالبا ما تجاهلت النظر إلى مسارات التعليم كمشروع للوصول إلى “إيثاكا” ما، سواء أكانت مشروعا نوويا أو مشروعا للنهضة الاقتصادية الشاملة، أو حتى لمجرد السعي للقضاء على الفقر والأمية (بمعاييرهما الحديثة). فتركتْ حبلَ التعليم على الغارب ليكون مضيعة شاملة للمال والوقت. ومن بعد ذلك ليتخرج طلاب لم يكسبوا من تعليمهم أكثر من شهادة يعلقونها على الحائط، أو نجمة يضعونها على الكتف، من دون أن تعني شيئا ذا مغزى لا في سوق العلم ولا في سوق العمل.
السؤال الذي لا جواب حقيقيا له، هو لماذا يريد أن يصبح البعض “دكتورا”؟ إذا نظرت إلى الأمر بمقاييسه العملية، فلسوف ترى كيف أنه شيء غير مفهوم، أو أنه عمل من أعمال الحمق المجرد.
وأسوأ من ذلك، فإن هناك تواطؤا اجتماعيا ورسميا شاملا مع هذا الحمق.
اللقب في الأصل هو درجة من درجات الفلسفة في الحقل الذي تختاره. وهو ما يعني أنك سوف تصبح منتجا للعلم في هذا الحقل، وتستطيع أن توظف ما انتهيت إليه من “اختراعات” أو استنتاجات بحيث تجعل منه سبيلا لشق طرق جديدة.
هذا يعني باختصار، أنك إذ تسعى للحصول على لقب بهذا الحجم، فلأنك تقترح على نفسك وعلى المجتمع وعلى المؤسسة العامة، مسبقا، بأن تسلك طريقا عمليا يمضي بك إلى أبعد من مجرد وضع النجمة على الكتف. ذلك لأن اللقب، في الأساس، هو نوع من “ترخيص” رسمي بأنك قادر على أن تمضي قدما.
ماذا يفعل حملة النجمات في عالمنا العربي؟ إنهم يتوقفون عند وضع النجمة. وينتظرون أن يربت المجتمع على أكتافهم فرحا بها.
ما كان يفترض أن يكون ترخيصا للشروع ببداية، أصبح عندنا إعلانا جماهيريا ببلوغ النهاية.
وهذا عمل من أعمال التزوير والحمق. لا يشمل ذلك، بطبيعة الحال، الأفراد الذين وجدوا أنفسهم مهجرين، أو عاشت بلدانهم ظروفا قاهرة، أو حرموا من متابعة تخصصاتهم لأسباب سياسية أو تتعلق بأنظمة الفشل الإداري. إلا أن هذا الاستثناء يعود ليؤكد القاعدة، وهي أن مؤسسات التعليم تمنح شهادات عليا، ولكن مؤسسات الإدارة العامة والتخطيط سرعان ما تحولها إلى شهادات مزورة.
وفي حين أن هناك حقولا، مثل هندسة البناء، صار من الجائز أن تُغلق، لأن القسط الأعظم من معارفها وحقائقها العلمية قد أغلق، وتحول إلى برامج جاهزة، فإن هناك حقولا أخرى ما تزال في بداياتها. ولكن المسألة الأهم إنما تتعلق بالتوظيف الاقتصادي للخريجين، وليس تخريجهم، وكأنك تريد بتخريجهم أن تتخلص منهم. هذا عمل من أعمال التزوير أيضا.
التوجه لإنتاج المزيد من طبقة “الدكاترة” يتعين في الأقل، أن يعرف المجتمع أين سيوظف خبراتهم، وأن يترافق مع إنتاج أضعاف مضاعفة من خريجي المعاهد الوسيطة، لأن هذه الخبرات لن تحقق بالفعل ما هو منتظر منها من دون طاقة عمل أوسع.
الاقتصاد الحقيقي هو الاقتصاد الصغير والمتوسط. السباك والحداد والميكانيكي والطباخ والكهربائي والبناء وذو المهارات التقنية الأولية، هم في الواقع العجلات التي يتحرك على أساسها “الاقتصاد الكبير”، أكثر بكثير من كل ما نعرفه من الشهادات العليا.
والتنمية الاجتماعية والاقتصادية إنما هي كذلك مع هؤلاء الناس أولا. والحاجة إليهم لا تتوقف أصلا. ذلك أننا نبني ونشق طرقا، ونقيم معامل، ونفتتح مدارس ومستشفيات من دون نهاية.
عشرة أطباء متخصصين لا يقدرون على إدارة مستشفى. هم بحاجة إلى ضعفيهم من الأطباء العموميين، وأربعة أضعافهم من الممرضين والفنيين، وأكثر من كل هؤلاء لكي يبنوا المستشفى ويوفروا لها التجهيزات والتمديدات ويشقوا إليها الطريق المناسب.
ما قد يثير مشاعر الدهشة، هو أن هؤلاء ليسوا هم الاقتصاد الحقيقي فحسب، بل إنهم حملة الشهادات (من دون أوراق بالضرورة) التي لا يمكن تزويرها أيضا. حتى الدخيل عليهم يتعلم ويُصبح “ابن حرفته” أفضل من عشرات الذين يحملون شهادات عليا ولا يتوفر دليل عملي على أنهم يعرفون بالفعل ما كسبوا نجماتهم عليه.
وقد تعثر على “دكتور” تخرج من كلية الآداب وظل لا يقيم جملة على معايير الأدب، ولكنك لن تعثر على عامل بناء محترف يقيم حائطا مائلا.
المسألة الأهم هي ما إذا كانت لدينا مؤسسات تعليم وتخطيط تعرف كيف تقيم طريقا (مهما بلغ طوله) يمكنه أن يوصلها ويوصلنا معها إلى “إيثاكا”.
العرب