ثقافة وأدبمقالات

قصص قصيرة

د. خالد محمود

 

 

د. خالد محمود حسين الخضر[*]

 

القصة الأولى

ظل لزمن طويل يقضي كل يومه تحت ظل وريف لشجرة  ذات أغصان متشابكة نبتت في بيت جاره. كانت حياته بين نفحات النسيم المعتدل وجمال الغصون الخضراء وهدوء المكان وكانت سعادته لا تحدها حدود. فجأة بدأ الشك يتسرب إليه: ماذا لو قرر جاره أن يقطع الشجرة؟ وكيف له أن يطمئن في ظلٍ يأتيه من شجرة جذعها ليس في بيته؟ أفسد هذا الشك عليه سعادته وأصبحت  أحاسيس  الهدوء والراحة تستدعي  التوجس والخوف. استبدّت به الهواجس حتى أصبح يلصق أذنه بالجدار ليتنصت على جاره، فتأتيه همهمات مبهمة من خلف الجدار يخيل إليه أنه استبان من بينها كلمة “فأس”. لا بد أن جاره يبحث عن فأس ليجتث الشجرة. ينام فتأتيه صورة الفأس وهي تهوى على جذع الشجرة وأحيانا على جمجمته فيستيقظ مذعورا. تأكد أن “مملكة الظل” التي أسسها بأحلام اليقظة والنوم والتخيلات والراحة لسنوات طوال قد آلت للسقوط  مثلها مثل كل الممالك، ومثله مثل ملك مغلوب عليه أن يغادر قبل أن يشاهد بعينه النهاية الأليمة. قال في نفسه أنه سوف يعود إن بقي في العمر بقية، ولكنه تلاشى عن الوجود وهو يخطو أولى خطواته خارج مملكة الظل.( خالد محمود)

القصة الثانية

لم تكن حياته سوى فراغاً ممتداً داخل نفسه وخارجها يتسكع بين أروقته صباحاً و مساءَ. تعوّد أن يتأمل طويلاً في حركة جسده الدؤوبة ذات النسق الإلهي ،فيرصد أنفاسه ونبضات قلبه وينصت للصوت الوجودي الذي تلامس ذبذباته تجويف أذنه في رحلته من الأزل إلى الأبد. يوصله تأمله إلى عظمة وجمال الحياة الممنوحة له دون استحقاق وبلا مقابل، الأمر الذي يشعره بالسعادة المشوبة ببعض الخوف، وهو الخوف من فقدانها. فمن ناحية هو يرى حياته تعمل وفق آلية خارجة عن إرادته وسيطرته لذلك لن يستطيع فعل شيء إذا جف هذا المعين الصافي، ومن ناحية أخرى يرى نفسه غير جدير بها فهو لم يقدم شيئا إيجابياً فيها لا لنفسه ولا لغيره، ولكنه ما يلبث أن يطرد هذا الهاجس ويؤكد لنفسه أنه إن لم ينفع أحداً فهو أيضاً لم يلحق أي ضرر بأحد ولم يتسبب في تدمير الحياة بأي شكل. ذات مساء أحس بانقباض في صدره، فأدرك أن شخصاً ما لا بد أن يكون قد نزل قريباً منه بمسافة سمحت بانتقال موجات التوتر الانساني إليه، ربما عبر الأثير أو أن يكون الاوكسجين قد نقص في الهواء بسبب هذه الانف الدخيلة. فتح النافذة ليتأكد من وصول الوافد غير المرغوب فيه، فرأى بيتاً تحت التشييد. ما أن رآه جاره الجديد حتى صاح فيه أن هلم إليَّ ببعض الطعام. استجاب لهذا النداء بالرغم من حالة العسرة التي يعيشها، فهي فرصته أن يسدي معروفاً يسُدُّ به بعض ديون الحياة عليه. توسَّم جاره فيه خيراً لما لاحظ فيه من أريحية فالتمس منه أن يحضر مِعْوَله ليساعده في البناء. استجاب أيضا بلا تردد مستبدلاً راحته ودعته بشقاء العمل، وتأملاته بأحلام وكوابيس بعد أصبح لا يعود للبيت الا للنوم منهكاً خائر القوى. مع ذلك كان يشعر بالرضا النفسي والاتزان الداخلي. لم يمض وقت طويل على تردده على جاره حتى استيقظ ذات صباح على ندائه، فهب مذعورا وتناول مقبض المِعْوَل لكي يسرع إليه، ولكن الجار أشار إليه أن يترك المِعْوَل مكانه، ويجلب الخنجر. لِم يسال جاره أي سؤال، بل شحذ خنجره الذي لم يكن يظن أنه سيستخدمه في يوم من الأيام، وقال في نفسه ” هذه فرصتي لأعتلي ذروة سنام الانسانية عبر التضحية بالنفس من أجل جاري. لا يهمني من سأقاتل ” . في هذه المرة، خرج من داره ولكنه لم يعد.

القصة الثالثة (طريق العودة)

لم يتبق من ذاته غير هشيمٍ مبعثرٍ يتوارى داخل خوفه ، فهو لا يريد أن يثير انتباه أحد لكي لا يأخذه ويرميه بعيدا، وحتى عندما يكون محظوظا وتُخطئه عيون الناظرين، لا يجعل من ذلك مناسبةً سعيدة بل يتحسر على نفسه كونه لم يعد جديراً بأن يكترث الناس لوجوده. مع ذلك، فأشد ما يزعجه هو قناعةٌ بدأت تتشكل بداخله أنه أصبح يزيد المكان قبحاً، وأنه حتما سوف يغادر ، راضياً كان أو كارها ،فالأنظار التي أخطأته اليوم لن تخطئه الى الأبد، ويوما ما ،سوف يؤخذ غصباً عنه إلى حيث لا يريد. استقرت في قلبه وعقله فكرة حتى الأمس القريب كان يصفها بالجنون ويقاومها، ولكنه اليوم اعتنقها كفكرة خلاصه الوحيدة، وهي أن يعود طائعاً لدوحته الخضراء التي هجرها منذ عشرات السنين، يعود بدافع الحنين أولا ثم بدافع الهروب. نظر في أمره طويلاً ، فمن ناحية هو لا يستطيع البقاء فالأخطار تهدده من داخل نفسه ومن خارجها، ومن ناحية أخرى فإن اتجاه العودة هو الذي تهب منه الرياح ولا يملك القوة الكافية لمغالبتها والسير عكس اتجاهها، خاصة وأن الطريق الأقرب قد انطمست معالمه بفعل العواصف والأنواء. تسللت إليه فكرة أضاء لها كل وجدانه فنفذها على الفور وانطلق مع الرياح في عكس اتجاه مقصده ، ولكن بميلان قليل جدا نحو الشمال لا تكاد الرياح تحس به ،وهو بذلك لا يعاند قوة دفع الرياح ويمكنه ،عبر هذا الانحراف المتواصل، غير المحسوس، أن يجعل طريق العودة دائرياً. في بداية رحلته كان يتجنب النظر إلى الأرض لأن منظر جذوع الاشجار وهي ضاربة بجذورها في أعماق الأرض يثير في نفسه الحسد والغيرة من حالة الاستقرار التي تعيشها هي ويفتقدها، يحسد الجذع حتى لو كان لشجرة يابسة، فلا يهمه أمر الحياة والموت بقدر ما يهمه الاستقرار. يدير بصره عن الأرض فينظر إلى الشمس والقمر والنجوم ، فهي، على عكس الجذوع والصخور، تشاركه الدوران في الفضاء الواسع ، فيشعر أنه جزء من المنظومة الكونية فينبعث في نفسه الشعور بالطمأنينة والرضا. استمرت هذه الرحلة سنوات طويلة فتبدل حاله وتغيرت ملامحه حتى أنكر نفسه، ولكن اسوأ ما حدث له أن ظهره قد تقوَّس وانحنى، ولم يعد يستطيع النظر للفضاء العلوي الذي طالما استمد منه السعادة والرضا، وشاركه الحركة الدؤوبة، فأصبح مكباً على وجهه لا يرى إلا جذوع الأشجار والصخور الثابتة التي تستفز مشاعر الحقد عنده. مع ذلك فهو الآن لم يعد مستاءً من حالة “اللا- وصول” التي يعيشها، لأنه لو وصل فلن يستطيع بظهره المحدودب أن ينظر نحو أعلى الدوحة بل سينظر فقط إلى الظل ويعيش فيه مع الأوراق التي اصفرت وذبلت وسقطت ويبست وربما ذرتها الرياح وأخذته معها إلى حيث أتى.

[*] أستاذ الأدب المساعد-جامعة الخرطوم/ جامعة تبوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى