
كمال حامد يكتب.. إتفاقيات تقنين وتأطير العلاقة بين بعثات الدعم والسلطة الطالبة للدعم الخارجي
طلب الدعم الخارجي ... ليس مجاناً
وجوب التفريق بين مصطلحي السيادة sovereignty والهيمنة hegemony: إضاءة من التاريخ المصري

في 1881م قام الضابط المصري أحمد عرابي بثورة محدودة ضد حكومة الخديوي محمد توفيق، وكانت ثورة محدودة لأن
هدفهم لم يكن الإطاحة بحكومة سلالة محمد علي باشا التي بدأت سنة 1805م ولكن كان هدفهم إصلاحات مثل تأسيس برلمان مصري يشارك في مناقشة الشئون العامة ويراقب ويحاسب الوزراء، وإصلاح الجيش

وغير ذلك من الطلبات مع الإبقاء على الخديوي محمد توفيق واليا لمصر.
وبدون الدخول في التفاصيل الكثيرة المتشابكة لتلك الحِقْبَة من التاريخ المصري، نقول باختصار أن الخديوي محمد توفيق وافق ظاهرياً على طلبات الضباط الثوار، ونجحت الثورة ظاهرياً، وتم تشكيل البرلمان، بينما استمر الخديوي يتراسل سراً مع البريطانيين للحضور والمساعدة في إعادة فرض النظام، والغريبة أن مصر كانت ولاية تحت سيادة الدولة العثمانية.
المهم، وصل الأسطول البريطاني وقصف الإسكندرية وزحفت القوات البريطانية وهزمت الجيش المصري بقيادة عرابي في معركة التل الكبير ودخلت القاهرة.
رسمياً، كان التدخل العسكري البريطاني بَعثة دعم للسلطة الشرعية بزعامة الخديوي محمد توفيق، فما هو الثمن مقابل ذلك الدعم الذي طلبته أنت منا يا سعادة الخديوي المحترم محمد توفيق؟
الثمن كان اتفاق مكتوب لتنظيم وتأطير العِلاقة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية أعطى صفة الإلزامية واجبة التنفيذ دون نقاش لتوصيات الحكومة البريطانية التي كانت تتم عن طريق القنصل البريطاني في القاهرة : اللورد كرومر.

ولكن في نفس الوقت ظلت مصر على نفس التوصيف القانوني: ولاية تحت سيادة الدولة العثمانية، ولكن تخضع بالكامل للنفوذ البريطاني، ومن هنا وجب التفريق بين مصطلح السيادة sovereignty والهيمنة hegemony.

صار القنصل البريطاني اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر، وصار لزاماً على أية رئيس وزراء لمصر أن يستقيل في حالة عدم موافقته على أية توصية من كرومر وفعلا كانت هناك حالة استقالة رئيس الوزراء محمد شريف باشا في 1884م حين رفض تنفيذ توصية إخلاء السودان (للمزيد من التوسع اقرأ هنا عن أسباب استقالة محمد شريف باشا ونص الاستقالة):
https://www.hindawi.org/books/35837080/23/ )
وتحت ظلال تلك القيود والإلزامات تمت كل السياسات والقرارات الرسمية المصرية تجاه السودان عبر العقود التالية حتى 1955م ولم تستطع مصر التحرر والفكاك من القيود البريطانية لعشرات السنين لأنها هي من ألزمت نفسها بها ولأن حاكمها هو من طلب التدخل الخارجي.
تذكرت كل تلك الوقائع وأنا أشاهد بالأمس وزيرة الخارجية حفيدة الإمام الثائر محمد أحمد المهدي وهي تجلس للتوقيع على اتفاقية تأطير العلاقة بين حكومة السودان وبعثة الأمم المتحدة – يونيتامس – مع الألماني فولكر بيرتس.

وحين يخاطب فولكر بيرتس الرأي العام السوداني قائلا أن هذا الموضوع السوداني أو ذاك أمر يخص السيادة السودانية، فإن هذا الكلام جميل من طلائه الخارجي فقط، ولكن بناء على ضرورة التفريق والفرق بين مصطلحي السيادة sovereignty والهيمنة hegemony فإن بواطن الاتفاقات الغير منشورة وغير متاحة للرأي العام قبلا أو بعدا يمكن أن تجرد السيادة من أدوات الفاعلية.
أتمنى أن أكون غير محق في هواجسي، أما إن كانت هواجسي صحيحة فإن القرار السياسي السوداني سيكون قد تمت مصادرته لمدى لا يعلمه إلا الله تعالى.