مقالات

لماذا يغيب المجلس الأعلى عن  باريس والبجا هم أول الثائرين ؟!

عمر طاهر أبو آمنة

عمر طاهر أبو آمنة

البجا هم السُكَّان (الأصليين) لشرق السودان، وهم أصحاب الأرض والموارد والتاريخ والحضارة دون منازع، وعلى مَرِّ التاريخ تعرضوا للظلم والتهميش الممنهج، من كافة الحكومات التي حكمت السودان، دون إستثناء، وأسوأها على الإطلاق عهد المتُأسلمين، وكأنَّ هذه الحكومات متفقة و(بشكلٍ واضح) على ظلم البجا ونهب مواردهم، وإن إختلفت (ظاهرياً) فكرياً وإيدلوجياً، لكنهم اتفقوا (عملياً) على ظلم البحا وإقصائهم من كل شئ.

حينما أتت الثورة كان البجا أول المستبشرين بها، ظناً منهم بأنها سوف ترفع الظلم عن كاهلهم، ولو شئنا الدِقَّة فإنَّ البجا كانوا (رُوَّاداً) في مناهضة ومقاومة المتأسلمين، حينما انتفضوا في 29 يناير 2005 ببورتسودان، وفقد السودان حينها أكثر من 22 مواطناً بجاوياً (أعزلاً)، قُتِلوا بدومٍ بارد عبر مليشيات المتأسلمين الغاشمة. وكان شعار التجمع الوطني الديمقراطي المرفوع (آنذاك)، على الجبهة الشرقية (الإنتفاضة الشعبية المسلحة). لكن البجا انتفضوا (سلمياً)، وقدموا شهدائهم البواسل فداءً لقضيتهم المركزية، وواجهوا آلة الإبادة الإسلاموية القمعية القاتلة لوحدهم، بصدور عارية، وشجاعة نادرة، ورباطة جأش قل نظيرها، ولم ينتظروا قوات التجمع المسلح، التي كانت تتجهز وتتأهب (وقتها) للوقوف معهم والقتال بجانبهم، تبعاً لشعار التجمع المرفوع آنذاك! بينما عجز قادة جميع الأحزاب التي تتبجح وتسرح وتمرح اليوم، بإسم (الثورة)، حتى عن إصدار بيان إدانة وإستنكار للجريمة البشعة التي إرتكبها المتأسلمون ضد أبناء البجا العزل ببورتسودان، وحتى اليوم لم يُدْرَجوا ضمن الجرائم التي يُتَّهَمُ بها قادة المُتأسلمين.

منذ بدايات الحراك الشعبي في ديسمبر 2018، وقبل أن تتوسع الثورة جغرافياً، سارعت جميع مدن البجا للخروج والانتفاض بشجاعتهم المعهودة، ففي عاصمة البجا (بورتسودان) خرج طلاب المدارس والمواطنين رغم تواجد البشير فيها آنذاك في زيارة رسمية، كما خرج طلاب كلية التربية الشجعان بمدينة جبيت، بمعية المواطنين الشرفاء، ولكن نخب الخُرْطُوم سرقوا الثورة (كعادتهم)، وحَوَّروا مساراتها وعطلوا أهدافها وتناسوا شهدائها وصُنَّاعها. أما حكومة ما بعد البشير، وكغيرها من الحكومات منذ ما يسمى استقلال وحتى الآن، صَعُبَ عليها إنصاف البجا وواصلت في ظلمهم، بل زادت عليه ظلماً آخر لم يكن في الحسبان ولا الخيال، حيث تعمدوا تغييب (البجا) أهل الشأن والأرض والموارد (الأصيلون) عمَّا يسمى منبر جوبا، وأتوا بنكرات ومجهولين لا علاقة لهم بالسودان من أساسه لتمثيل الشرق!

واجه هذا المنبر المشبوه والمفروض كـ(أمرٍ واقع)، رفضاً قاطعاً من جميع أهل شرق السودان (الأصليين)، لكن حُكَّام الخرطوم أصرُّوا على المُضي قدماً في التفاوض، ووقعوا إتفاقية عرجاء مع أولئك النكرات والمجهولين، سمِّيَت بـ(إتفاقية مسار الشرق) لم ولن ترى النور إلى الأبد، بسبب الرفض الكبير والإحتجاجات العارمة التي واجهتها، وستواجهها هذه الإتفاقية بشرق السودان! وفي ذروة ظلم البجا من حكومة الثورة وإعتماد مرتزقة وإنتهازيين، وُلِدَ وتَشَكَّلَ المجلس الأعلى لنظارات وعموديات البجا المستقلة بشرق السودان، في مؤتمر ضخم حضره أكثر من مليون بجاوي، في مدينة سنكات بولاية البحر الأحمر للتصدي للتحديات الجسام، التي يواجهها أبناء البجا، والدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم في شرق السودان.

خرج المؤتمر واللقاء البجاوي، غير المسبوق، بمقررات تاريخية مهمة عُرِفَت بمقررات مؤتمر سنكات، لتثبيت الحقوق التاريخية للبجا، والتي من أهمها: الرفض القاطع لمسار الشرق، مراجعة الهوية بشرق السودان، تنفيذ شروط القَلَد، وترسيم الحدود بين القبائل حتى لا تَدَّعي بعض القبائل امتلاك اراضي غيرها من القبائل،  ومحاكمة المسؤولين عن قتل أبناء البجا في الأحداث القبلية التي شهدها شرق السودان في الآونة الأخيرة. وكان الخِيار الاخير والأقوى للمجلس، في حالة عدم تنفيذ الحكومة لمقررات سنكات المصيرية، هو المطالبة بحق تقرير المصير لشعب البجا الصابر والمثابر. وقد وجد طرح المجلس الأعلى المتقدم قبولاً منقطع النظير، في أوساط البجا وإلتَفَّت جميع القبائل البجاوية وغيرها حول المجلس، الذي أصبح الممثل الشرعي الوحيد للبجا. وفي سبيل تنفيذ مقرارات سنكات، خاض قادة المجلس مفاوضات ولقاءات وإجتماعات عسيرة وصعبة، مع قيادات الدولة السودانية بأعلى مستوياتها، كرئيس مجلس السيادة ونائبه ورئيس الوزراء وغيرهم من المسئولين، استناداً لـ(مقررات سنكات المصيرية)، وهكذا ظل المجلس الأعلى يصول ويجول بين الخرطوم ومدن الشرق، لتثبيت الحقوق التاريخية للبجا.

من هذا المنطلق كان على حكومة الخرطوم الحرص على الاهتمام بالمجلس الأعلى للنظارات، وإشراكه في جميع الفعاليات المتعلقة بالسودان عموماً، وشرق السودان على وجه الخصوص، ومن ضمن ذلك إشراكه في جميع خطوات ومراحل وفعاليات مؤتمر باريس، ليس فقط أسوةً ببقية الأجسام الثورية والمطلبية، ولكن تقديراً لمكانته لدى سُكَّان الشرق (الأصليين) وبالتالي قدرته على ضبط وتسيير الأمور هناك. والمجلس مؤهل تماماً للمشاركة بفعالية وكفاءة عالية في كل هذه الأمور، فهو لا ينقصه العلماء والخبراء والمختصين في كافة المجالات الإنسانية. وتزداد الحاجة أكثر لوجود المجلس في هذه الفعالية، لأنَّ أرض البجا ومواردها وموانئها المتنوعة كان حضورها طاغياً، بل محوراً رئيسياً لمناقشات باريس، ضمن ما سُمِّيَ مشروعات الإستثمار بالسودان!

إن المجلس الأعلى للنظارات المستقلة هو باب الشرق (الوحيد)، بما يشكله من ثقلٍ جماهيري وإنسانيٍ كبير، شاء من شاء وأبي من أبي، إلا لو اعتقدت نُخب الخُرْطُوم أن شرق السودان منطقة بلا أسياد، ويمكنها (استباحة) واستغلال مواردها الاستراتيجية بمعزلٍ عن أهلها (الأصليين)! وباريسٌ هذه هي عاصمة فرنسا، التي تعتبر أكثر الدول معرفة وإلماماً بموارد شرق السودان، خاصةً الذهب، وظلت تلتهم مناجمه بارياب منذ العام 1991، كشراكة مع المتأسلمين، وحتى هذه اللحظة لا يعلم السودانيون كَمّيَّة الذهب الذي أنتجته شركة ارياب، ولا الشركة التي جاءت بعدها، أو الي أين ذهب ويذهب الإنتاج الضخم، لأكثر من 30 عاماً وما يزال مستمراً؟! فأهالي المنطقة (ارياب) يعانون من الإهمال والظلم وشظف العيش، ولا تتوفر لهم أبسط مقومات الحياة من صحة وتعليم وكهرباء ومياه صالحة للشرب، رغم أن منطقتهم هي الأكثر إنتاجاً للذهب في السودان!

سواء أعفَت ديونها على أو لم تفعل، فإن فرنسا حريصة على ديمومة مصالحها في السودان عموماً، وفي الشرق بنحوٍ خاص، ليقينها الراسخ بإمكانيات شرق السودان المهولة، وموارده المتنوعة، بما يُحتِّم الاهتمام بمُواطني الشرق ومُمثليهم (الرسميين) وهم المجلس الأعلى للنظارات المستقلة. ولقد كان من الأوجوب و(الأصلح)، إشراك المجلس في جميع خطوات ومراحل مؤتمر باريس، وتركه يُحدِّد ويختار الصيغة التي يراها مُناسبة لمشاركته، بعد تكييفها وملاءمتها بما لا يتعارض مع الرؤية السودانية العامة، وفي ذات الوقت يضمن حقوق البجا (أهل الشرق الأصليين).

الآن الفرصة ما تزال مواتية لإشراك المجلس الأعلى للنظارات، وإتاحة الفرصة الكاملة له للتفاكر والنقاش مع الفرنسيين، عبر الحكومة، وتوضيح حجم الأضرار الاقتصادية والبيئية السابقة والحالية والمتوقعة، التي تعرض لها أهالي الشرق (السكان الأصيلون)، والاتفاق على الصيغ المُرضية والمنصفة للبجا (كسكان أصليين) وللفرنسيين وغيرهم من المستثمرين. فقد انتهى زمن (الغَتْغَتة والدسديس)، ولم يَعُد مقبولاً أبداً (تغييب/ظلم) البجا، سواء عن السودان عموماً أو الشرق خصوصاً، ولتكن البداية القوية بتصويب واستدراك أخطاء مؤتمر باريس، الذي تم فيه تغييب البجا بصورةٍ مُتعمَّدة، وهذا أمرٌ لن نقبله ولن نمرره، إذ ليس مقبولاً ولا منطقياً عزل وتغييب المجلس الأعلى في مؤتمر باريس والبجا هم من أول الثائرين.. وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى