د. محمود محمد حسن أحمد
مركز التراث الإسلامي – جامعة أم درمان الإسلامية
ثمة هجمة معاصرة على القياس الذي مارسه الفقه الإسلامي على مدى قرون باعتبارات شتى منها ادعاء أنه تمحور حول
النصية مما يغلق أفق الاستجابات الظرفية المتغيرة (وهنا يروج للمقاصد بالمقابل)، ومنها ترسيخه لحجية السنة الآحادية والتي تلقى هي بدورها هجوماً أشد من حيث استناد الأصل المقيس عليه في القياس على نص كثيراً ما يكون حديثاً نبوياً.
لعل د. نصر حامد أبوزيد أشهر من قاد الحملة ضد الشافعي كمرسخ لحجية السنة صنواً للقرآن في التشريع، وكمبلور وموطد لحجية القياس في نظره, ولا ينطلق د. أبو زيد من ذات منطلق ابن حزم في تفنيد القياس تقوقعاً في الظاهرية التي تحول بين العقل واستنباط العلل فهو لم يتعرض لذلك أصلاً ولو فعل لوضع نفسه في دائرة تضييق نطاق العقل لصالح النص وهو ما يستنكف عنه، ولكنه يعتمد على دعوى استخدام الشافعي القياس بأسلوب سلبي لقفل الاجتهاد وحصر الاستدلال، فليست القضية بالأولوية في تعليل الأحكام وتساوي النظائر، وإنما في جعل القياس آخر المدى الاستدلالي مع كونه مجرد تحويم على النصوص في حقيقته !
وللمدرسة الصدرية الشيعية موقف آخر يبدو أكثر واقعية يجعل من القياس مرحلة من مراحل الاستقراء المفضي إلى التقعيد المقاصدي، فوجود كمّ متكاثر من الفروع يوصل إلى ثلج صدر استقرائي، وترتقي الممارسة من حمل نظير فرعي على نظير مثله إلى تكوين قانون كلي من استقراء الجزئيات وقد شددوا في تأسيس القواعد الفقهية خاصة.
لقد استغل د. أبوزيد ما كتب وقرر الشافعي رحمه الله من رد على الاستحسان لدعم مزعمه أن ترسيخ القياس كان من غرضه قفل ما وراءه من مراعاة التغيرات الزمانية والظرفية؛ على أن التعويل على المناسبة أو ما يسمى المصالح المرسلة هو المقابل الأدق وليس الاستحسان الأصولي الذي هو عدول عن القياس في جوهره، والعدول الجزئي يكرس الأصل ولا ينفيه كما أن التخصيص يكرس للعموم لمن يفقه هذه الأمور، وذلك ما يدرج على ألْسِنة العلماءِ والعوام جميعاً من أن الاستثناء يؤكد القاعدة! ..لكن ثمة نثطة فارقة غي هذا الصدد وهي أن الشافعي تناول الاستحسان بمفهوم قديم مواز للتشهي المطلق، أما المناسب المرسل فقد نسب الجويني للشافعي العمل به لكن مقيداً المصلحة بمشابهة المصالح المعتبرة شرعاً، أو المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول، وقد ذهب ابن برهان إلى نسبة العمل بها للشافعي أيضاً، والمعروف عن الغزالي وهو فقيه شافعي اعتبارها لكن في حال الضرورات كمسألة التترس المشهورة[1].
القرحة الدامية عند د.أبوزيد هي مرجعية السنة، وهو يركز على الآحادية ليستثني المتواتر الذي يحصره في العملي فقط دون أن يقدم تبريراً، وذنب القياس أنه في خلاصته عمل بالنص الذي استند إليه الأصل المقيس عليه وهو هنا يغفل عن علم أو جهل أن القياس نوعان : ما كانت علته منصوصة، وهذا قد عده عدد من الأصوليين عملاً بالنص ولهذا أقره ابن حزم ولم يجعله من ضروب الأقيسة، والثاني ما لم ينص على علته وهنا نقف أمام مستويات شتى أدناها ما تاسس على مجرد اطراد العلة (تكرر الوصف مع الحكم المبحوث فيه) وأعلاها ما روعي فيه الملاءمة والمناسبة، أي بلغة العصر :(الموضوعية)، وهذه المناسبة حين تدرك وتفهم نكون قد قطعنا شوطاً فقط من القياس، أما التتمة فحين ندرس الواقع ونتحقق من وجود أو عدم وجود العلة، وهو ما يسميه الأصوليون: “تحقيق المناط”، وفي هذا الموطن تتجلى مراعاة التغيرات الزمانية والبيئية التي يدندن بها أعدء القياس.
ولا أدري بعدئذ لم تلك الحملة على حجية السنة الآحادية؟ هل لأنها ظنية!..فما المشكلة في ذلك ما دمنا نتعامل مع كل نص ظني ودلالة ظنية بمرتبة تنزل عن اليقينيات، وهذا جلي في باب التعارض والترجيح!..وإن كانوا لا يرضون من الشريعة إلا بالقطعي فهل يزعمون في الاستحسان الذي يبكون عليه أو فقه المقاصد أن الاجتهادات فيه قطعية!..لو ظنوا ذلك فتلك أعظم المصيبتين!..لكن القضية تبدو أعمق ولا أريد أن أقول أخبث فالدكتور يسوق نظرية أن الشافعي تعمد إضفاء القدسية على السنة لأهداف إيديولوجية كترسيخ الخلافة القرشية!..وهو إسقاط غير ملزم، ودعوى لا تدفع عنها احتمال التوهم. من ناحية أخرى نجد الدكتور يروج لتعددية الحقيقة مما يعني نفي الحقائق المطلقة، وبالتالي ثوابت الدين كنتيجة منطقية فيقول بحد العبارة: ” الإلحاح على وحدة الحق رغم اختلاف القائسين هو الذي يعطي للقياس في نظر الشافعي مشروعية يحرم منها الاستحسان”[2]، فالمفهوم من ذلك أن الاستحسان يتضمن تعدد الحقيقة ولهذا رفضه الشافعي أو تذرع لرفضه، ولكن من أين للدكتور زعم أن الاستحسان يقتضي بالضرورة تعدد الحقيقة وليس مجرد تعدد صواب الاجتهاد الذي قرره الشافعي للقياس!، هذه مقدمة مدعاة غير مؤكدة فتكون نتيجتها مجرد دعوى لا تغني فتيلاً. لقد رفض الشافعي استصلاح العقل المطلق بسبب أنه لا يستند إلى معرفة بل إلى مجرد غريزة فصار أشبه بالميتافيزيقيا والحاسة السادسة وأشباه ذلك، وليس لأنه يفتح باب تعدد الحقيقة، لأن حتى القائلين بتعدد الحقيقة – بغض النظر عن بطلان أو صواب دعواهم – يسلكون سبيل البرهان، ولا يتأتى برهان قط بلا ثوابت سواء كانت بدهيات فطرية، أو مسلمات هي ذاتها مبرهنة، أو مصادرات شخصية؛ وهذا أمر واضح للعقلاء[3].
في الساحة آخرون تورطوا في ادعاء أن القياس الفقهي لا يتجاوز مرحلة طفولية من الفكر حسب أطوار النمو العقلي عند بياجيه، بحجة أنه قائم على مجرد الشبهية لا الموضوعية، مع أن قياس الشبه عند الأصوليين من الأقيسة الضعيفة، بخلاف قياس العلة، لكن كثيراً من المتقحمين على التراث الأصولي لا يفرقون بين الشبه اللغوي والذي قد يرد بمعنى العلة على ألسنة الأصوليين تجوزاً، والشبه الاصطلاحي الذي لا تظهر فيه المناسبة وتحقيق المصلحة، ومع ذلك ليس قياس الشبه كما يتوهم كثيرون مجرد اتفاق أوصاف، ولهذا عرف بعض العلماء قياس الشبه بأنه: إلحاق مسكوت بمنطوق لشبه يظن به أنه يحتوي على علة جامعة لم يتوقف عليها[4]، وكان الشافعي يؤخره في المرتبة ويسميه: قياس غلبة الأشباه؛ وهو منحى أشبه عنده بالمنحى الاستقرائي لاعتماده أشباهاً متعددة.
بقي أن نقول لمن يحمل الشافعي وزر القياس، ما الجديد الذي أتى به الشافعي سوى تقعيد ما هو متقرر لدى من قبله منذ الصحابة!..إن مدرسة الحنفية التي يجعلها د.أبوزيد حاملة لراية الاستحسان هي أكثر المدارس تطبيقاً للقياس، حتى لقد عيب عليها من قبل الخصوم الإفراط في ذلك، إن التقرير المسبق لتورط الشافعي في الإيديولوجيا العباسية، والعنصرية القرشية استخدم كمفسر تاريخي لقواعد منهجية تجريدية بامتياز، فالسنة وطدت كمصدر فقط من أجل هذه الغايات الخسيسة في نظرهم، ولا أدري لم نظروا إلى روايات محدودة ووهمية الدلالة أحياناً، قد تستغل لتلك المآرب، ولم ينظروا إلى ألوف النصوص المقوضة للظلم والطغيان، والداعية للمساواة، وما الخوف مع وجود ميزان للروايات تضافرت جهود العلماء لوضعه حتى يماز الدخيل عن الأصيل! .. لو استطاع هؤلاء مس هذه الميزان لتم لهم أرب في رد السنة، ثم رد ما يبنى عليها من القياسات، والمعيار الذي نحتكم إليه: الموضوعية والحياد، والدقة؛ فحتى ما بدا موقفياً في تراثنا الذي هو في النهاية جهد بشري مهما أخلص فيه ظهر كقاعدة عامة منهجية، لا تجاه نصوص بعينها.
[1] أي التضحية بالمدنيين الذين يجعلهم العدو حاجزاً بشرياً في ظرف يعرض الأمة للخطر المحقق
[2] نصر أبوزيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية، ص140-141؛ مكتبة مدبولي.
[3] لعل من يدعون ذلك لا يعلمون أن مما تذرع به خصوم القياس نفسه أن تعارض الأقيسة يفضي إلى أن يكون الشئ ونقيضه حق وهو محال، أو أن أحدهما الصواب بلا مرجح وهو محال آخر، فالاعتراض وارد على القياس إذا أورد على الاستحسان.
[4] ابن رشد، محمد بن أحمد، الضروري في أصول الفقه، ص128، جامعة سيدي محمد بن عبدالله، ت: جمال الدين العلوي، ط1 1994م.