معاناة السودان في ظل السياسات الدولية
د. عزيزة سليمان علي[*]
السياسات الدولية تسيطر على الدول النامية، بوضع شروط قاسية ومجحفة من البنك الدَّوْليّ، في القرارات السيادية للدول النامية والأقل نمواً، لتصب جميعها في مصلحة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ودول الغرب. السياسات الدولية تتيح للبنك الدَّوْليّ التدخل في شئون تلك الدول المغلوب على أمرها، بفرض رفع الدعم عن بعض المواد التموينية ومصادر الطاقة، كالنفط، وفرض الخصخصة للشركات الوطنية، خاصة مشروعات المياه، وفرض سياسة السوق المفتوح وسياسة التحرير وتعويم الأسعار، بحجة تشجيع المنافسة وتشجيع الاستثمارات الأجنبية والشركات العالمية الضخمة.
فرض رسوم على المرضى أدى إلى جعل الخِدْمَات العامة بعيدة عن متناول أكثرية السكان، وهم في غالبيتهم من الفقراء والمحتاجين. وإن دور البنك الدَّوْليّ المتنامي في إملاء السياسات الصحية في البلدان النامية، حال دون تطبيق مقاربة الرعاية الصحية الأولية، ولا يستطيع التأمين الصحي الخاص، بأي شكلٍ من الأشكال، مساعدة المواطن العادي في بلادنا، إذ أنه لا يستطيع تحمّل دفع كلفة التأمين، ولا يستطيع عدد كبير من الأشخاص في القطاع غير الرسمي، أن يتحمّل أعباء هذا النظام، في الوقت الذي يتزايد فيه الدعم الحكومي للقطاع الصحي في البلدان المتقدمة، التي تروّج لنفسها لتخفيض المخصّصات الصحية الحكومية في البلدان النامية، حيث يرتفع باضطراد عدد السكان الواقعين تحت خط الفقر.
النظام الدُّوَليّ جعل الحكومات تتخلى تدريجياً عن مسؤولياتها تجاه المجتمع، حيث حرم الفقراء من خِدْمَات صحية عامة فعالة، وها هم اليوم يواجهون الظلم والحرمان. فالخدمات الصحية والاجتماعية بحاجة ماسة لتعزيز الأنشطة في مرافق الرعاية الصحية الأولية للقيام بنقلة نوعية في نهج الصحة العامة. إذ يمنع النظام العالمي الجديد إتاحة الخِدْمَات الصحية، من حيث حصول الشرائح الفقيرة والمحرومة في المجتمع، على الرعاية الصحية الأساسية بسبب العراقيل المالية. وفي ضوء هذه التداعيات العالمية، التي سوف تؤثر بالضرورة على صحة السكان في بلادنا وانهيار الهُوِيَّة الوطنية, أضحت صحة الإنسان في المحك، خاصة في ظل الزيادة السكانية والتغيير الديمغرافي والفقر والهجرة.
العولمة تهدد القيم الأخلاقية، وما نجم عن ذلك من تراجع دور الدولة في تقديم الخِدْمَات الاجتماعية المختلفة، هذا إلى جانب التناقض الدُّوَليّ بالموضوع الأخلاقي، حيث تروج للأخلاق السامية وتفعل العكس. وعلى سبيل المثال، في ما يختص بحقوق الطفل في الانتهاكات الجنسية، واستغلال الأطفال في الحروب وحماية الحكام الفاشيين عندما لا تتعارض المصالح مع سياسات الغرب.
أما البعد الاجتماعي للعولمة فيرتبط بمناحٍ شتى في الحياة، ولقد أدى الاهتمام المتزايد بالبعد الاجتماعي في التعليم، والتشغيل، والضمان الاجتماعي، والعدالة، إلى ظهور مجال من مجالات رسم السياسات يهتم بتحقيق العدالة وعدم الانحياز بين جميع الأفراد والمجموعات والدول، من خلال خلق قاعدة مستوية داخل الدولة. ولقد ربطت كثير من الدراسات، بين ظاهرة العولمة وتدني مستويات الخِدْمَات الأساسية، التي كان من المسلم به أن تقوم بها الحكومات، فمن الأمور التي تلقى اهتماماً كبيراً، تدني مستوى التعليم العام والتدريب على المهارات، مع وضع عوائق لا تجعل القبول فيهما أمراً متاحاً للجميع.
ولذا تخلت الدولة عن ضبط الأسعار، وعن تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي لمواجهة تدني دخل الفئات الفقيرة، وحسن توزيع الثروة التي احتكرتها فئة محدودة من أصحاب رؤوس الأموال، ولكن كان من الأهمية بمكان التركيز للحفاظ على الثروة القومية في أيدي المواطنين، والانفتاح مع حرية رأس المال في إطار ضوابط تشريعية، مع ضبط الأسعار والسيطرة على التوجه الاستهلاكي غير المطلوب بسبب التخلي عن الفئات المطحونة.
اتباع حكومة السودان للسياسات الدولية خطأ كبير، أدى إلى تداعيات عدّة باستغلال ضعف الدولة وتعطيل فرص التقدم، واتساع الفجوة وضعف الأمل في إحداث التغيير المنشود.
[*] استشاري الطب الباطني القلب وطب الشيخوخة.