مقالات

خدعوك فقالوا : الحجاب والنقاب حكم شرعي وشعيرة تعبدية..!

أ. د. عامر عباس حمد[*]

الأصل في الأديان والشرائع السماوية جميعها – والاسلام آخرها – هو الإباحة في كل شئ الا ما حرم بنص : هو الذي خلق لكم مافي الارض جميعا ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم (البقرة 29)، والحرية من كل قيد الا ما حدد كذلك بنص : قل الحق من ربكم فمن شاء فاليؤمن ومن شاء فليكفر (الكهف 29).

عليه فإن الحرية تعني حرية الضمير والإعتقاد مع تحمل المسئولية عن الإختيار ، وتعني حرية الفعل مع تحمل مسئولية عدم الإضرار بالنفس أو الغير…. الخ

ومن ضمن الحريات التي يتمتع بها الانسان بحكم الخلق والفطرة هو حرية إختيار ما يلبس … من حيث الشكل ، الخامة ، اللون ونوع التطريز …الخ ويختلف ذلك بحسب إختلاف الأذواق ، الفهوم، العرف والعادة ، طبيعة المناخ السائد وما يشيع في جماعة أو مجتمع ..الخ وهو ما يصعب معه – إن لم يستحيل – أن يتم تنميط الناس على شكل واحد أو لون واحد ، ومن ثم الزامهم وحملهم عليه سواء عبر التشريعات الدينية أو غيرها من وسائل الضبط الأخرى المختلفة … وهنا مكمن إهتمام الأديان بالقيمة وليس بالشكل كما سيتضح لاحقا.

ولقد شغلت مسألة اللبس أو الزي الواجب التزامه فيما يلينا كمسلمين حيزا كبيرا جدا في حياتنا سواء الفردية منها والشخصية أو ما كان متصلا بالشأن العام السياسوي منه والمجتمعي .. اليس غريبا أن تكون هذه الجزئية مثلا هي بداية فك الارتباط ونقض التحالف الذي كان قائما في مصر ما بين الأخوان المسلمين وتنظيم الضباط الأحرار في خمسينيات القرن الماضي حين طلب مرشد الاخوان المسلمون من جمال عبدالناصر إصدار قرار بالزام النساء بارتداء الحجاب وجعل من ذلك شرطا لاستمرار دعمهم لمجلس قيادة الثورة ، فرد عليه عبد الناصر ساخرا بأن عليه هو اولا أن يلزم أبنته التي تدرس بجامعة القاهرة بالحجاب قبل أن يطلب منه إلزام المجتمع بذلك!. وأن يكون ذلك أحد أبرز مظاهر تخلف وفساد الحكم الإستبدادي الإسلاموي في السودان فيما عرف بقانون النظام العام مادة الزي الفاضح! حيث أنصرف كل جهد السلطة في مطاردة النساء والفتيات في الشوارع ودور العلم ودواوين الدولة وجلدهن…

إن الأصل في الخلق هو السفور حيث خلق آدم وزوجه ، ثم ولاحقا طفقا يخصفان عليهما من ورق الشجر … وحيث كان الخلق وكنا فما نزال نستقبل الحياة عراة ، ونودعها عراة … وحيث لا تزال المجتمعات البدائية تعيش على هذه الشاكلة الطبيعية ، وهي لا تزال موجودة ،، الا ما يستر العورة ،،في بعض مناطق وطننا السودان حتى اللحظة ..

إذن وبشكل عام يتضح جليا أن الحجاب – وبالضرورة النقاب – ليسا أصلين في أي دين او شريعة سماوية ومن باب أولى في الاسلام بطبيعة الحال وهو ما سنفصل فيه لاحقا ، وبينما نجد أن بعض طوائف اليهود قد إختصت بالنقاب الاسود الكامل للنساء وإن كن طفلات ، فإن الكنائس والأديرة المسيحية قد إختصت بغطاء الرأس وبتطويل الزي الكنسي .. ولكن في كليهما فهي أمور قاصرة على بعض الطوائف وبعض الأمكنة وليست حكما عاما يشمل الجميع ولعلها نشأت عن الغلو والتحريف الذي شاب كليهما … بينما يحاول بعض المشتغلين بالفقه الديني من فقهاء وأئمة منابر ودعاة من جهة وبعض الجماعات الدينية السياسية كالسلفيين وجماعات الاسلام السياسي وغيرهم يحاولون الجمع بين الإثنين فيما يتعلق بالاسلام والمسلمين فلا يكادون يقفون على حدود المطالبة ،، أو الإلزام القسري ،، بإرتداء الحجاب بل ينادون أيضا بالنقاب والنقاب بالذات عادة يهودية !.

وهم في ذلك لا يخرجون البتة عن دائرة التوظيف الأيديولوجي والسياسي لمسألتي الحجاب والنقاب كشعار Slogan أو علامة حصرية مميزة كما العلامات التجارية لدى الشركات التجارية والمصانع وغيرها من الانشطة، وهم في سبيل ذلك لا تفتر همتهم في محاولات دائبة لتأكيد شرعية هذا المنحى من الناحية الدينية بإعتباره حكما دينيا وشعيرة تعبدية يعتبر من يتركها ولا يأخذ بها في أحسن الأحوال عاصيا لربه مخالفا لرسوله ويأثم إثماً كبيراً، وفي أسوأها هو خارج الملة … ويسري هذا على كلا الرجال والنساء على حد سواء … فالنساء بعدم إلتزامهن بالحجاب أو النقاب ، والرجال بإعتبار تقصيرهم في إلزامهن وإجبارهن على فعل ذلك!

ولكن ما هي حقيقة موقف الدين الإسلامي من كلا الحجاب والنقاب ؟

المدهش في الأمر أننا لا نجد في كامل منظومة التشريع الديني في مصادره الأصلية وينابيعه الاولى الصافية أدنى ذكر لهذين المصطلحين البتة فيما يتعلق بضرورات اللباس والزي ! فلا حجاب ولا نقاب ، بل نجد ذكرا لحالة الطبيعة الأولى كما في قصص خلق آدم: فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة (الأعراف 22)، ونجد ذكراً لفضل الله تعالى على البشر في خلق وإيجاد مكونات ومقومات اللبس: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريش (الأعراف 26)، مع تذكير بأن القيم الاخلاقية هي الهدف وهي الحجاب الفعلي من السوء والفواحش : ،، ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (الأعراف 26)، مع تذكير دائم ومتواتر بضرورة الالتزام بغض البصر لكلا الجنسين كما في قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (النور 30)، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن (النور 31)، وهو ما يؤكد على أن الأصل هو السفور مع الحشمة وليس الإخفاء والا ما كان من معنى للحض المستمر على غض البصر لكلا الرجال و النساء على حد سواء! فهل للرجال أيضا حجاب او نقاب؟! على الرغم من أننا لم نعدم في إطار جائحة الغلو والتطرف من إعتماد أزياء بمواصفات معينة بزعم انها اللباس الشرعي للرجال! ..

إن في كل المواضع التي ذكرت فيها كلمة “حجاب” في مصدر التشريع الاول القرآن الكريم إنما وردت بمعنى مانع أو حاجز أو فاصل أو جدار ..إلخ كما في الأعراف (46)، الإسراء (45)، مريم (17)، الأحزاب (53)، فصلت (5) والشورى (51)، وذلك في سياقات مختلفة وأوضاع متباينة وليس بمعنى لباس أو زي معين ، ومع ذلك فعند ورودها بصيغة الأمر في موقع وموضع محدد وتجاه شخصيات محددة هن زوجات الرسول و أمهات المؤمنين وذلك في قوله تعالى لجماعة المسلمين: وإذا سألتموهن متاعا فأسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن (الأحزاب 53)، فإن المعنى لم ينصرف أبدا نحو الزي أو شكل اللباس وإنما بمعنى الفاصل أو الحاجز أو الساتر أو المانع، ذاك ما كان من أمر القرآن الكريم وهو مصدر التشريع الأول .

أما إذا إنتقلنا للسنة النبوية وهي مصدر التشريع الثاني ، فإننا لا نجد فيما هو عملي منها ما يسند أو يؤيد كلا الأمرين المطروحين للنقاش هنا .. بل على العكس ! إذ نجد أن المرأة كانت حاضرة وبقوة في المشهد التشريعي ، المجتمعي ، الدعوي فضلا عن الجهادي العسكري …. ففي حين فر كبار الصحابة مثلا من ساحة المعركة في أحد لم يتبق حول الرسول سوى عشرة يزودون عنه ويحمونه من القتل كانت إحداهن إمراة هي نسيبة بنت كعب،، أم عمارة،، بحيث أخبر الرسول أنه ما التفت لجهة الا ووجدها تقاتل .. فهل يعقل أن يتم ذلك بنقاب؟! او حتى بحجاب على شاكلة الذي يصور الآن على أنه الزي الشرعي؟! إن ذلك يستبعد وينفي فرية أخرى تؤسس على مبدأ الفصل بين الجنسين ومنع الإختلاط جملة … وفي ذلك إفتئات على صحيح الدين الذي لم يمنع الإختلاط البتة ولكنه نهى عن الخلوة وحذر منها ، وفي هذا النهي حماية للمرأة وصون لها من غائلة الإفتراءات من جهة أو صائلة القوة الجسمانية للرجل بحكم طبيعة تكوينه من جهة آخرى… فالإختلاط إذن أصل في الإجتماع البشري حيثما وجد.

نعود للقول أيضا بأننا وبإفتراض غض الطرف عما يعتور السنة اللفظية أو القولية من شوائب وظنون وجرح وتعديل وشبهات ..الخ فإننا لن نجد في صحاحها سوى حديث واحد تقريبا حول وصف الرسول لاسماء بنت أبي بكر لما يصح أن يرى من الفتاة إن هي بلغت المحيض … وحتى في هذا فإنه ليس فيه لفظة الحجاب ولا النقاب لا من قريب ولا من بعيد….

ربما إذن .. بل من المؤكد أن يسارع العديد من الناس للإلتجاء لقوله تعالى :وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها (النور 31)، للتدليل على وجوب الحجاب أو حتمية النقاب … ولكن ليس في ذلك أبعد مما أعتدنا عليه من لوي عنق النصوص لتتوافق مع ما نريد نحن إيصاله والتأكيد عليه لا ما تريد هي ،، أي النصوص ،، إيصاله والتأكيد عليه وفي ذلك شطط ما بعده شطط… إذ الأمر فيها واضح وهو الضرب على الجيوب أي تغطية الفتحات التي يمكن أن تكشف دواخل الجسد من جهة النحر أو اليدين أو الساقين ، ولكن ليس فيها أمر بحجاب أو بنقاب مما يصور للناس الآن لا من قريب ولا من بعيد …

خلاصة القول فيما أوردناه أننا نريد التأكيد على أن الاسلام – وكل الشرائع التي سبقته كذلك – إنما كانت تحض على مفهوم وقيمة،، الحشمة ،، وليس سواها ، وتأمر بإتباعها كيفما كانت الوسيلة … ولذا كان غض البصر من كلا الجنسين خادما لذلك المفهوم .. والنهي عن الخلوة والتحذير منها كذلك خادما لذلك المفهوم .. والتحلي بلباس التقوى وفضائل الأخلاق كذلك خادما لذلك المفهوم .. وتأخر إبنتي شعيب حتى يصدر الرعاة ثم تأخر التي أرسلت لموسى حتى يتقدمها في السير كذلك خادما لذلك المفهوم .. وبأن يتصف الثوب بأنه لا يصف ولا يشف كذلك خادما لذلك المفهوم …الخ..الخ.

لقد تم تضخيم هذا الأمر عن عمد وترصد وأتخذ مع غيره وسيلة لإخضاع النساء في مجتمعاتنا المتخلفة لسلطة الفقه الذكوري بعقليته وموروثه البدوي حول القيم الأخلاقية ومفهوم العفة وما تسرب إليه من إسرائيليات من جهة… ولخلق معارك وهمية وبطولات زائفة لإبتزاز العواطف الدينية لدى عامة المسلمين في الداخل ضد الخصوم السياسيين والأنظمة الحاكمة وفي الخارج لإزعاج وإحراج الأنظمة الغربية العلمانية من جهة أخرى…

لقد سبق وسئل نافخ البوق وموقظ الشرق وباعث النهضة ورسول التنوير في العصر الحديث لمجتمعاتنا الإسلامية السيد الإمام جمال الدين الأفغاني عن قضيتي الحجاب والنقاب للمراة المسلمة فقال لهم ممتعضاً “إذ كان يرى أن أزماتنا ومشاكلنا أكبر”: لا بأس من السفور إذا لم يؤدي إلى الفجور …

نعم.. نعم.. فطالما أن الهدف هو منع الفجور فإن أي تصرف أو زي لا يفضي إليه فإنه حينئذ يفي بغرض التشريع، وكذا فعل تلميذه الأستاذ الإمام – وهو الوصف الذي كان يستخدمه الأستاذ عباس العقاد عند ذكر الإمام محمد عبده – في الفتوى الترانسفالية.. وحسنا فعلت هدى شعراوي ورفيقاتها بخلع البرقع ورفض النقاب في تظاهرة حاشدة في أوائل القرن الماضي بحيث أصبحن رائدات لتنوير وحرية المرأة المسلمة الواعية بقيم ومفاهيم الدين الحقيقية .

أخيرا فإننا لا نهدف من هذا التحليل منع ما يسمى بالحجاب أو النقاب على الشاكلة التي هما عليها ، أو الحجر على من تود الركون لأيهما فذاك أمر خاص وحرية شخصية … فقط نود التأكيد على أن ذلك ليس حكما شرعيا ولا هو بالشعيرة التعبدية وإنما هو إختيارك/ي الخاص فلا تزايد/ ي به على غيرك من الزاوية الدينية …

شخصيا كنت ولا زلت أرى في ثوبنا السوداني غاية الحشمة وهو يفي بغرض الشرع بأكثر مما يفعل ما يدعى أنه هو الحجاب أو النقاب الشرعي والذي ما فتئ يظهر كل مفاتن وملامح جسد معظم اللآئي يرتدينه، والغريب أن نجد أن أمهاتنا وأخواتنا الكبار حتى اليوم لا يجرؤن على إستقبال طارق أو ضيف به داخل منازلهن فضلا عن أن يخرجن به خارج المنزل للفضاءات العامة … فما أن يعلن عن قدوم غريب حتى يتخاطفن الثياب لتلبس فوق ما يدعى الآن انه الزي الشرعي..!

والأغرب من ذلك أن تطالعنا الصحف في الأيام القليلة الماضيةبمبالغ مليارية لشراء ،، إن صح أنها فعلا صرفت في ذلك ،، عبايات للنساء بإعتبارها الزي الشرعي في بلد يأكل كثير من سكانه من النفايات و يموت كثير من أطفاله من إنعدام الحليب وسوء التغذية وتنتشر به الأنيميا المنجلية …

إذاً أيها المسلم الحائر .. أيتها المسلمة الحائرة بين الدعاية والبروباغندا السياسية والأيديولوجية وبين صحيح الدين فإننا نقول لك: لقد خدعوك فقالوا أن الحجاب والنقاب حكم شرعي وشعيرة تعبدية… فألبسي أختي المسلمة كيف شئت على أن يفي ما تلبسين بقيمة الحشمة فإنها كيف وجدت فإنها شرع الله.

[*] وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هيئة الطاقة الذرية السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى