تقارير

صحيفة عبرية: يافا.. على موعد مع التهويد الممنهج

الحادث العنيف الذي جرى في يافا إذ هاجم فيه شابان عربيان يسكنان في مساكن “عميدار”، شخصيتين كبيرتين من إحدى مدارس الاتفاق الدينية (شيرات موشي) هو نقطة تحول في علاقات اليهود والعرب في المدينة. منذ تمركز الاستيطان الديني- الوطني في يافا في 2008، بنيت فيها وبصورة ممنهجة شبكة من المؤسسات التي تضم “النواة التوراتية: المدرسة الدينية شيرات موشي، وجمعية “يضيئون يافا”، ومدارس تمهيدية عسكرية، وقرية طلابية تابعة لحركة “بني عكيفا”، ومدارس تلمودية وغيرها. في حين أن السكان اليهود في يافا تزايدوا في الماضي ببطء، فإن الحادث العنيف يعيد تعريف قوانيبن اللعبة، وقد شكل الاصطدام فعلياً لقاءً أول في الساحة العامة ما بين عمليتين متوازيتين تمر بهما يافا: عملية التطوير الطبقي، وعملية التوسع للوجود اليهودي.

رسخ الحادث العنيف مكانة المستوطنين كضحية تحتاج للحماية، مع خلق تحالف علني بينهم وبين الشرطة. وشبيهاً بالعملية التي قادها المستوطنون في الخليل من اللحظة التي رسخوا فيها مكانتهم كمحتاجين للحماية، فقد حصلوا على تجند الدولة لصالحهم. وتعبير مباشر عن ذلك كان يمكن رؤيته غداة الحادث برد الشرطة الهجومي على احتجاج نشطاء ضد المستوطنين المتدينين، وبانتشار حزام من رجال الشرطية على مدخل المدرسة الدينية أثناء المظاهرة التي أقيمت السبت. إن عرض السكان العرب كـ “إرهابيين” يوسع الحدود بين التجمعين السكانيين وينقل الخط الأخضر إلى داخل المدن المختلطة. هذ التطورات تعيد تنظيم المدينة حول فضاءات محددة ومراقبة، وتغير الخطاب من خطاب مدني إلى عسكري.

في التغطية الإعلامية الموسعة، ارتبط الحدث المحلي في يافا بموجة المواجهات بين العرب واليهود في القدس، وعرض كحدث إرهابي قومي متطرف ولاسامي. “حرب دينية”، “مس بمن يعتمرون القبعات المنسوجة”، “الإجرام العربي يهتاج” صرخت العناوين، وتجاهلت تاريخ نظام الأراضي في يافا، وضعف التجمع العربي الاجتماعي والاقتصادي.

الحدث المؤسف الحالي لم يأت من العدم، فنواة الاستيطان المديني لاعب سياسي في المدينة التي تدمج القومية مع التطوير الحضري. بالإمكان تسمية هذه العملية القابلة للانفجار بـ “التطوير الحضري الإثني”، نظراً لأنها تربط ما بين العقارات والهوية اليهودية. رئيس المدرسة الدينية الحاخام الياهو مالي، الذي انتقل إلى يافا من بيت إيل في 2008 وهوجم بعد أن بحث في حي العجمي عن عقار لشرائه لصالح المدرسة الدينبة التي تزداد اتساعاً، هو ومدير عام المدرسة الدينية موشي شيندوفيتس أوضحا أن “الهجوم مرتبط بالأرض ولكن ليس بالإمكان فصل هذا عن مظهرنا الديني”.

إحياء اليباب الروحاني

ليس بالإمكان فهم كامل مغزى الحدث دون فهم تاريخ الاستيطان في يافا. كانت بدايات هذا الاستيطان عند الانعطافة التي بدأت فيها الصهيونية الدينية “بالتركيز على الاستيطان في المناطق” إلى “الاستيطان في القلوب”. أنشئت المدرسة الدينية “شيرات موشي” في 2008 على يد حاخامات متخرجين من المدرسة الدينية “عطيرت كوهانيم”. وبمرور السنين اتسعت الجالية، واليوم تعد حوالي 30 عائلة لطلاب هذه المدرسة، و15 عائلة أخرى من النواة التوراتية في العجمي، في يافا ج وفي سيدروت القدس.

في الواقع يؤثر الاستيطان بصورة دراماتيكية على العلاقات اليهودية العربية، ولكنه في المقام الأول مشروع يهودي. “نعمل في التعليم، وفي إصلاحات عميقة” قال رئيس النواة. “نشاطنا يتركز حول الهوية اليهودية، وليس نشاطاً يستهدف التعايش والحديث عن السلام”. أحد أعضاء النواة قال بأن “مكان الهوية اليهودية كان مطموساً هنا تحت التراب، يافا تمر بعمليات جيدة جداً منذ أن وصلنا، الكثير من العرب يخرجون، وأذكر الضوء الذي يشع من أعين الناس منذ أن وصلنا”.

تشير الأنوية التوراتية إلى انعطافة في الصهيونية الدينية. حسب أقوال الباحثة ماتي دومبروفسكي، في حين انشغلت حركة الاستيطان بنشاطات من أجل “كمال البلاد” في سنوات السبعينيات والثمنينيات”، فإن الأنوية التوراتية التي تطورت ابتداءً من التسعينيات تعمل من أجل “شعب إسرائيل”، ولهذا فإنهم يستوطنون في مناطق علمانية. تسارع هذا التوجه في أعقاب الانفصال عن “غوش قطيف” وشعور الانكسار في الصهيونية الدنينية من أن الجمهور العام لم يشاركها الألم الذي أثاره “الطرد”. أوضح الحاخام مالي دوافع الاستيطان في يافا: “في أعقاب طرد غوش قطيف، اقترحوا عليّ إقامة المدرسة الدينية… فكرنا ما الذي يمكن فعله لإصلاح بعد ما حدث هناك… فكانت النتيجة الانتقال من “بيت إيل” إلى “غوش دان”، والبدء بالعمل… عملنا مشروعاً كبيراً في المستوطنات طوال الـ30 سنة الأخيرة، ولكن يجب أن ننقل الصراع إلى مكان آخر اليوم” (نمرود بوسو 2/1/2015 The marker).

استيطان حضري

الصراع ضد النواة التوراتية في يافا بدأ بعد سنة من إقامتها. في 2009 فازت شركة (باموناه) وعلى رأسها إسرائيل زعيرا، مدير جمعية “عقل يهودي” ،بعطاء طرحته إدارة أراضي إسرائيل لشراء أرض في حي العجمي لبناء 20 وحدة سكنية لسكان متدينين- وطنيين فقط. مجموعة من المنظمات التمست لدى المحكمة العليا في محاولة لوقف المشروع. في 2011 رفضت المحكمة العليا الدعوى نظراً لأن المشروع كان قد وصل لمراحل متقدمة، على الرغم من أنها قررت أنه يميز ما بين المجموعات السكانية المختلفة، وبالأساس يميز ضد السكان العرب، ومؤخراً تم تسكين المشروع من قبل عائلات النواة. تصاعدت الأمور بمسيرة لنشطاء يمينيين في المدينة في تلك السنة، عندما حدث اصطدام بالمشاركين في المسيرة أمام مسجد النزهة.

أعضاء المستوطنة الحضرية يرون أنفسهم كلاعبين نشطاء في عملية إنفاذ شعب إسرائيل. طبقاً لهذه الرؤيا هناك مكان متدن للجيران العرب. “هم يستطيعون العيش هنا، ولكن يافا لم تعد لهم، هذا هو قلب البلاد. قالت لنا إحدى أعضاء النواة. في مقابلات أجريناها معهم كجزء من بحث نعده عن النواة التوراتية في يافا، عاد وظهر مفهوم (الساكن غير اليهودي) الذي يحدد مكانة المواطن العربي كأحد الرعايا، والذي يعش في المساكن بالمنّة وحقوقه مشروطة بقبول الحكم اليهودي. رغم (التضحية) التي أدت إلى تنازل عن الحياة الرغيدة والبيت الواسع في مستوطنة برجوازية خلف الخط الأخضر- وربما بفضلها- يتحدث أعضاء النواة عن نجاح المشروع، “يافا تتهود” قال أحدهم.

تسلسل أحداث التطوير معروفة مسبقاً

النضال ضد النواة التوراتية لا يقتصر على نضال ضد قرارات، بل على طابع المدينة، وبدرجة كبيرة على البيت. الصراع يتعاظم إزاء عمليات التطوير وضائقة الإسكان لعرب المدينة.

بوادر التطوير في يافا ظهرت في سنوات الستينيات والسبعينيات، مع استيطان فنانين وأشخاص بوهيميين في المدينة. تعاظمت الظاهرة منذ سنوات التسعينيات مع وصول مقاولين للعقارات دوليين إلى يافا، وبناء مشاريع فاخرة لأغنياء في منشآت مغلقة مثل تلة أندرومادة ومشروع صدف على البحر. خلال السنين تم تحويل مبان عديدة في يافا إلى أيدي مبادرين خاصين وأصحاب رؤوس أموال. في حين أن سكانها القديمين الفقراء، والعديد منهم عرب، شعروا أن الأرض تسحب من تحت أقدامهم.

في السلسلة الوثائقية التي بثت مؤخراً “المرشد للتطوير” هوت 8، يقول سكان عرب بأن ليس قوى السوق فقط بل ثمة سياسة حكومية وبلدية تقف خلف إبعادهم عن المدينة. الشركات الحكومية مثل “عميدار” و”حلميش”، والتي تضع يدها على أملاك الغائبين في المدينة، لم تعد تتصرف كشركات إسكان، بل كوكالات عقارية تكسب من بيع العقارات لمن يدفع أكثر. سكان كثيرون يجدون أنفسهم وقد تم إخلاؤهم من عقاراتهم نظراً لضعفهم الاقتصادي أو في أعقاب ضغوظ تمارس عليهم من قبل أصحاب المال ورجال الأعمال. ويضطرون إلى الانتقال إلى شقق أرخص في اللد والرملة. إن تسعير الشقق سرطان في جسم التجمع الذي يريد الحفاظ على بيوته.

إن إبعاد السكان العرب في أعقاب عمليات التطوير، يتسارع في مدن مختلطة أخرى في إسرائيل، من بينها عكا واللد. وفي 2017 دشنت شركة “بامناع- إسكان للجمهور المتدين القومي” التي تعمل في يافا، حي “نيؤوت الياهو” في عكا، وخصص للسكان اليهود المتدينين في المدينة، واشترطت السكن فيه بمصادقة حاخام النواة. وثمة إقصاء مشابه حدث في اللد في أعقاب إنشاء الحي المتدين “رامات إليشيف” في 2004 من قبل النواة التوراتية في المدينة، مع هدم مبان سكنية لعائلات عربية وإخلائها من المنطقة.

رغم الفوارق الواضحة بيت التطوير الاقتصادي والاستيطان الحضري، فإن لكليهما تأثيراً عميقاً على الشعور بالأمن والانتماء للسكان العرب. كلتا العمليتين ترافقهما صراعات على إسماع الأذان، ومسيرات دينية، وإغلاق طرق أمام الحركة يوم السبت، وفصل مؤسسات تعليمية وثقافية، وتخصيص موارد بلدية، وخطاب هرمي وإقصائي. ليس كل من يقومون بالتطوير ينوون تهويد المدينة، فمعظمهم جاؤوا بحثاً عن أسلوب حياة آخر، وأصالة شرقية ومستوى حياة، وبعض منهم معنيون بالدفع قدماً بالتعايش وتنوع الثقافات الفعلي ومدركون لمكانتهم ذات الامتيازات. ولكن عندما تندمج الدوافع الاقتصادية بالخطاب القومي المتطرف والإقصائي فإن العنف السياسي لا يتأخر في المجيء.

في أعقاب الحادث حول البيت محل النزاع، ازداد النقاش داخل الإعلام الاجتماعي صخباً، وتجند بعض السكان والنشطاء للدفاع عن الطابع التعددي ليافا. في شوارع المدينة، هنالك شعارات جرافيتية ويافطات على شاكلة: “يافا ليست للبيع” ، “عطيرت كوهانيم من أسوأ الجيران”، “هل هذا تهويد ونزع ملكية؟ ليست هذه توراتي”، “المدينة البيضاء في خدمة رأس المال”، “السوق حرة إذا كنت غنياً ويهودياً”… وكلها دعت السكان للخروج والمعارضة.

يلعبون بالنار

الخطاب الاستيطاني يحب تشبيهات الضوء والنار. اعتبر الوجود اليهودي كـ “القليل من الضوء يبعد الكثير من الظلام”، والمنظمات العاملة في المدينة تحظى بأوصاف طبقاً لذلك، مثل :”يضيئون يافا” و”لاهافا من أجل منع الذوبان في الأرض المقدسة” ولكن يبدو أن التعبير العربي “الشرارة تشعل النار” مناسب أكثر.

المدينة المختلطة تضع تحدياً للنظام الوطني بوجودها. في خطاب المستوطنين، التنوع وثنائية القومية في الحياة اليومية يعد تهديداً حقيقياً للوجود اليهودي. هكذا على سبيل المثال دعا ناداف شارجاي في مقال له إلى “الاستيطان في يافا وعكا واللد والرملة”، نظراً لأن “إسرائيل كدولة للشعب اليهودي ماضية في خسارة هذه المدن” (هآرتس 17/5/2009). في رسالة رد لهيئة التحرير التي عنوانها “لحياة مدن مختلطة” حذرت بثينة ضبيط، من فصل وبناء أسوار مادية ونفسية بين اليهود والعرب. ودعت إلى التعامل مع هذه المدن كذخر وليس كعبء، خصوصاً بسبب تركيبة سكانها المتنوعة: “ألم نتعلم من الماضي أن هندسة بشرية من هذا النوع ستقود إلى خراب ودمار؟”.

طوال سنوات وجودها، لم تتوقف يافا عن خلق أنواع من الاختلاطات- مهاجرون من الشرق والغرب، مهاجرو عمل فلسطينيون، عملاء، نشطاء، سياسيون، ومطورون، هيبيون وغيرهم. إذا كان شارغاي قد خاف من التهديد الديموغرافي، فيمكنه أن يهدأ اليوم: إن تطبيق النموذج الخليلي في يافا في ذروته.

بقلم: ياعيل شمرياهو-يشورن، ودانييل مونترسكو

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى