ثقافة وأدب

من مخلاية لطيب صالح

رحم الله الطيب صالح كاتب هذا المقال

*الطـــيب صـالح*

إنك لا تدخل المدن،
ولكنك تغوص في أعماق ذاتك،
بحثًا عن صور المدن في خيالك.
مكة المكرمة ما هي في الواقع المرئي؟
مجرد مكان.
بطحاء ضيّقة تكاد تخنقها الصخور الجُرد التي تحيط بها. عمارات وطرق وأسواق.
و جموع من البشر.
بعض قُطان هذا المكان،
يبيعون ويشترون،
ويأكلون ويشربون،
ويروحون ويجيئون،
وكأنهم في قرية أخرى،
وكأنهم في واد آخر.

سبحان الله. في هذا المكان بالذات،
*هرولت المرأة*
*وصرخ الطفل*
*وانبثق النبع*
ثم توافدت أفئدة الناس وارتفعت أركان البيت.

*ثم تفجّر نبع آخر*، تفجر بعد قرون،
وتفجر في اللحظة نفسها،
وتفجّر منذ الأزل،
قبل أن تكون السماوات والأرض.
امرأة أخرى وطفل آخر.
كان *إســماعيل* مثل اليتيم،
وهذا *محمّـد بن عبد الله* عليه الصلاة والسلام
يتيم بالفعل.
*أشرقت السماوات والأرض*
كفت الذئاب في الوديان عن مطاردة الغنم،
ولبدت السباع في شعاب الجبال،
وسكنت الطيور في أوكارها.
أرهف الزمان سمعه للصوت العجيب،
الذي يأتي من كل مكان ومن لا مكان.
ولم يدر أهل مكة،
*إلا السعداء* الذين كانوا يعلمون وينتظرون،
*أن ميلاد الطفل العربي اليتيم*
كان بشيرًا بمولد عالم جديد،
*انطلاقة فرح كبير، له وقع المأساة*

لذلك، فأنت حين تدخل مكة، فإنك لا تدخل مدينة بعينها،
في مكان بعينه،
تجيء وكأنك تعود إلى نقطة منطلق الأحداث وكأنك تدخل في مركز الدائرة.
وأنى لك يا مسكين أن تقوى على كل ذلك؟

تعالَ عند الفجر أو في الضحى أو قبيل الغروب.
تعال في الصيف أو في الشتاء، تعال من أم درمان أو من أصفهان أو تطوان.
تعال من جدة.
سِرْ في الطريق الذي سارت فيه قوافل المحبين الأوائل رحمهم الله أمثال حاج الماحي،
واغطس في لُجّة الليل،
وانهلْ من ضوء الفجر،
وافتح نوافذ روحك قدر المستطاع لانعكاسات ألوان السماء والأرض والجبال.

حين تدخل أم القرى،
وترى مآذن البيت العتيق المعمور، فإنك لن تكون مهيّأ للدخول،
ولن تكون أهلاً للدخول. لا تتعجل،
تريث قليلاً وانظر إلى الحشود الراكعين والساجدين.
انظر إلى الطائفين حول الكعبة،
كما يجري الماء في عروق الشجرة.
تخيّلْ نقطة البدء كما وصف التجاني يوسف بشير رحمه الله:

*ربِّ في الإشراقة الأولى على طينة آدمْ*
*أمم تزحم في الغيب وأرواحٌ تحاوَمْ*

ادخل الآن في الزحام. إنك عار كما ولدتك أمك لو تدري،
رغم الإزار حول وسطك وعلى كتفيك.
كانوا يطوفون عُراةً في الزمان الأول، زمان بكورة الحياة،
ولم يكن ذلك من أفعال البذاءة.
البذاءة جاءت عندما سقطوا وسقط عنهم لباس الطُّهر الفردوس،
وبدت لهم،
كما بدت لآدم وحواء، سوءاتهم.

إندسّ في غيابات الزحام،
فأنت في الحقيقة لا شيء،
لا أكثر من نثار الهباء في ملكوت الله،
مهما بلغ شـأوك في موازين أهل الدنيا.
فُك الأغلال التي كبلتك بها الدنيا.
تخفّف من أثقالك قدر المستطاع.
إن كنت صاحب جاه فارم عنك أعباء جاهك، وإن كنت صاحب مال،
فألق بخزائنك في هذا البحر،
وإن كنت صاحب اسم أو صيت،
فلن يغني عنك اسمك ولا صيتك في ذلك الزحام.
انْس إن استطعت،
ولكنك لن تستطيع،
فأنت في الدنيا وبها،
وهي محيطة بك مثل الموت،
أقرب إليك من حبل الوريد.
إنما حاول جهدك،
فوشيكًا سوف تعود إلى ما كنت فيه،
وقد تفيق وقد لا تفيق.

قبل الحجر الأسود فهو ليس حجرًا،
وتعلق بأذيال الكعبة، واستنشق العطر،
فهو ليس من عطور هذا الزمان.
وتكون سعيدًا إذا جرت الدموع من عينيك،
وخفق قلبك واهتزّت أركان ذاتك.

هرولْ بين الصفا والمروة، كما هرولت أم الوليد أول الأمر، والطفل يبكي،
ولا ماء ولا قوت ولا أهل،
وشيء جليل يوشك أن يحدث له طعم المأساة.

ثم اجلس في صحن المسجد، وتأمّل وتمهّل، وتزوّد وسعك. عما قليل سوف تعود إلى ما كنت فيه.
سوف تطمرك الحياة بهمومها وأهوائها وأكاذيبها.
سوف تعود إلى جاهك وسلطانك،
إلى مالك وخدمك وحشمك،
إلى اسمك وصيتك.
كنت متسربلاً وأنت عار في هذا المكان.
وحين تتلبّس ثيابك وأوهامك وشهواتك،
سوف ترتدّ إلى عُريك القديم.
*فتمهـّل ولا تعجـلْ*
*وقد تفيـق وقد لا تفيـق*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى