مقالات وخواطر

“ولادة الصالحين

محمد احمد رحمه: يكتب

 

انظر الى ذلك “الأرنيق” الذى كان يتوسط غرفنا المتواضعة فى الشمال واقلّب الوجه فى السماء واسمع “انكسر المرق واتشتت الرصاص” ، واعجب ولسان الحال يحدث ، كم يساوى هذا “المرق” ان غاب ذاك الارنيق؟ إنه استبدال الذى هو أدنى بالذى هو خير فيبدو أن “الأرنيق” كان أجدر بالاحتفاء.

  لو اكتفينا بالقول بأنه علم من الاعلام فهذا يعنى بان هناك اعلام مثله ولانتقصناه تفردا وتماما هو مُدركه فالرجل تصغر عنده المهام العظام وتقصر فى حقه نهايات الكلام.، رجل تسعد لسيرته المحابر وتطرب الاقلام ، تجده حاضرا فى كل المواقف العظيمة التى تحفل بامثاله ووالله ما وقعت عيناي – فى مكتبة الوالد – على لجان للتطوير او مشاريع زراعية او مجالس خاصة باهلنا الا وكان لها اماما ، رجلٌ من اهل الفضل وذو فضل باسطا يده عطاءً لا ينضب بالقدر الذى يجعلك تحس بان قوائم تبرعات العون الذاتى فى مجالات الصحة والتعليم وغيرها كانت تأبى ان تخطئه ليتصدرها احدٌ غيره وان تأخر احيانا يحل ثانيا للراحل المقيم شاكر منقريوس.

الشيخ محمد محمد مختار – رحمه الله – كان رائدا من رواد التعليم الاهلى ثم الحكومى بالبلاد تتلمذ على يديه الاب والابن والحفيد, علمنى كما علم ابى, ولو قُدر لنا ان نجمع ذرات الطباشير التى نثرها فى اذكاء عقولنا وتبييض قلوبنا لكفت بيوتنا طلاء الجير الى قيام الساعة ولحكمة يعلمها الله كان مقامه فى ناوا كخير الامور – فى وسطها – وكأنه منها ذلكم “الارنيق” الذى يسند عرشها ويرفع قدرها.

الشيخ محمد محمد مختار كانت خطاه التى مشاها كلها بين المساجد والمدارس والأهل فيوضاً من الخير العميم ما زالت تتدفق الى يومنا هذا, وكان خليقا به ان يسود أهله ولا أدل على ذلك من أن اجتمعت عليه الضفة الشرقية من اقصاها الى أقصاها مطلع الستينات وقدمته عمدة على المنطقة وكانت ملحمةً وسفراً من تاريخ أهلنا الآخيار ولسان حالهم الشاعر الفخيم محمد صالح الراوى – رحمه الله – يكتب للتاريخ “ولادة الصالحين” التى سار بذكرها الركبان بينما سار هو الى قاعات المحاكم

أشرح يا لبيب وَلِف لو مسدار

 سجل لك كلاماً وختو تذكار

لي ولادة الصالحين العندها اسرار

ان جلس وان قام يقول يا الله ستار

ما نهر اليتيم وما سب لي جار

حجا وطاف وفوق قبر الرسول زار

من كرمو وتواضعو وخلقو يا بار

ان سال رب الارض تتفتح انهار

الخصم لاقاني وقال في عقلي محتار

وقتلو ان حصل القدر ما بتنفع اعذار

اخر فكري ليك اندسي في غار

ادخل جوة منو وولع النار

وقال يا الراوي كيف تتقابل النار

كيف بتقابلني كيف وش الرجال حار

نحنا من تمر العرب ولا كبري القدار

يي طلبنا البندفعو وفي صوتنا احرار

صوتنا للاسد البِكُر وفي غابتو نهار

تمساح أم سنيط الهدم السار

محمد ود محمد ابن مختار

كضاب اليقول في حقو جبار

ان ركبت عربه ولا ركبت طيار

بينك وبينو كيلو وسبعه امتار

وللفائدة نقول بأن ال “كيلو وسبعة أمتار” لم تكن من باب لزوم ما لا يلزم بل هى فى ذاتها قصة أخرى , وحتى لا نطيل فلنطوى هذه الصفحة فهذه سيرة تطول فصولها ويصعب حصرها فى هذا المقام.

 اذكر مطلع الثمانينات وأنا أسرع الخطى خلف والدى – رحمه الله – الى مكتبه العامر بمبنى القضائية , للقاءٍ يحمل همّ العشيرة والشأن العام, وكنت بين الخطى اسائل نفسى واقول هذه هى المرة الأولى التى سأرى فيها الشيخ عبدالرازق مختار رحمه الله, كنت حفياً أن أجلس اليه وسيرته الباذخة تملأ الآفاق جلست اليه وأحسست لبرهةٍ بأن طيفاً يسرى من حضرة معلمنا الآول الشيخ محمد مختار , ذريةً بعضها من بعض , ذات الهدوء والتواضع والسماحة والسكينة والفضل واذكر بأن جوهر اللقاء كان يدور حول ضرورة قيام محكمة بالضفة الشرقية تجنب أهلنا وعثاء السفر وعبور النهر إلى القولد فى كل كبيرةٍ وصغيرة , ورحل شيخنا عبدالرازق بعد أن قدم لأهله الكثير ولم يستبق شيئاً رحل و “ولادة الصالحين” تُحتم عليه أن لا يفارق هذه الدنيا الا ساجداً وإماماً. وهذه صفحةُ أخرى.

 وتمضى “ولادة الصالحين” سلاسل من النجوم اللوامع حتى يطل من بينها بدرا سامى القدر, رفيع المقام , قريبٌ ضوؤه للعصبة السارين من الأرامل والمساكين والمرضى واصحاب الحاجات باسطا يده لكل أهل السودان “خريف الدالى والمزموم” ولم أجد وصفاً يشبهه وخليقٌ به غير قول البحترى

دانٍ على أيدي العفاة وشاسعُ عن كل ندٍ في الندى وضريبُ

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه للعصبة السارين جدّ قريبُ

الراحل المقيم محمد عبدالرازق مختار طيب الله ثراه وعلى درب الأخيار الصادقين واقتفاء الأثر حببه الله فى الخير واعانه على فعله فعاش حياته كلها للناس , سعياً بين الأرامل وكفالة الأيتام وهذا لعمرى فضلٌ عظيم , (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) , فكان حرياً به بلوغ هذا المقام وكان طفلاً يحبو حين صدح الراوى ب “ولادة الصالحين”, وكان حرياً به أن يكون قبلةً لاصحاب الحاجات والأيتام ووالده العابد إمامٌ يقرأ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) .

الراحل المقيم محمد عبدارازق مختار عاش حياته رجلاً سمحا اجتمعت فيه من الخصال فضالها , الأناة والحلم ومكارم الأخلاق وسماحة أهل العلم, ونشهد له بالفضل وهو من أهله ونسأل الله أن يكون فى معية اولئك الذين ينطلقون إلى الجنة سراعاً زمراً ويُقال لهم (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).

واخيراً وفى الزحام يطًل وجهها الوضئ من بين الطنادب ورقراق الدوم على بقعةٍ اضاءتها زماناً طويلاً نار القرآن وغطتها جباه الساجدين, جاءتكم وفى يمينها دواتها واقلام البوص وما زال لوحها يزاحم الحيران فى الكبس, عمتى زينب الفكى الفقيرة إلى الله والتى فارقت الدنيا بعده بأيام ولم يعد بيننا وبينها إلا الدعاء , نسألكم لها ولكافة موتانا وموتى المسلمين خالص الدعاء.

والى اللقاء

محمداحمد رحمه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى