مقالات

المسلمون وأكل الفطيسة بي رأس العود

أ.د. عامر عباس حمد[*]

أ.د. عامر عباس حمد

مثل يقال لكل من لا يطابق قوله فعله.. فيتأفف من الشئ ويرفضه مخافة أن تتلوث أصابعه فقط، ولكن لا مانع على المبدأ نفسه أو الشئ في ذاته، فهو يتعاطى معه عبر وسيط ولا إشكال عنده حيال ذلك، وها هنا شبه الأمر بمن يرفض تناول الفطيسة خوفاً من تلوث أصابعه، ولكنه لا يمانع في أكلها إن وجد وسيلة أخرى، كأحد العيدان مثلاً.

وهكذا نحن المسلمون نحرم كل شئ تقريباً، ونرفض العقل والعلم والتعلم عن غيرنا، وندعي خصوصية لا وجود لها إلا في رؤوسنا الخاوية، وأخلاق وقيم لا تتجسد في سلوكنا العملي اليومي إلا عكسها تماماً سواء في المنزل، الشارع أو العمل، وسواء في السياسة أو الرياضة أو الثقافة… إلخ. فحالة الثنائية في الشخصية الإسلامية من الظواهر الغريبة على مستوى العالم، والأغرب منها هو القدرة الفائقة على العيش بين المتناقضات دونما أدنى شعور بالحرج أو الحياء، ولعل ذلك في تقديري أحد أبرز أسباب تخلفنا وانحطاط مجتمعاتنا.

فنحن على سبيل المثال، ومنذ أن نستيقظ صباحاً حتى نعود لنغفوا مساءً، نتفيأ ظلال المدنية الأوربية الحديثة بديمقراطيتها وعلمانيتها ونظمها الإدارية في تسيير الدول والمجتمعات، وعبر منجزها العلمي والتكنولوجي وحتى كثير من منجزها الثقافي والفكري. ففرشاة الأسنان والمعجون المصاحب لها، وكل ادوات المطبخ لعمل الشاي والأكل من فرن وبوتوجاز وغاز وثلاجة، والأواني المستخدمة من منتج الدول المدنية العَلمانية الغربية الحديثة. وكذلك الشاشات والكمبيوترات، ما كان محمولاً منها أو قعيداً، وأجهزة الهواتف النقال أو الثابت، وأجهزة التكييف والمراوح، والسيارات ما كان منها خاصاً أو ناقلاً عاماً. والسكك الحديدية والمطارات والطائرات، على أنواعها النفاث منها أو ما كان شراعياً، والبواخر ما كان منها للبضائع أو لنقل البشر. والمستشفيات بما فيها من أجهزة للتشخيص أو للعلاج، والأدوية واللقاحات والتطعيمات ضد الأمراض والأوبئة. وتخطيط المدن وهندستها وطرق البناء الحديثة وأدواتها وآلياتها، والطرق الممهدة بالأسفلت والكباري، ما كان منها طائراً أو يجلس القرفصاء، والأجهزة والمعدات المستخدمة في الزراعة والصناعة بمختلف ضروبها، والأحزاب السياسية وشكل الدولة الحديثة ونظمها التي نضعها كهياكل كرتونية للتمويه والخداع، ومن ثم نمارس فوضويتنا ودكتاتوريتنا وفسادنا المتأصل في نفوسنا من خلالها، ولكأنما لم توضع وتخترع أصلاً لتمنع ذلك..!

كل ما ذُكِرَ غيضٌ من فيض، وهو على سبيل التدليل والمثال وليس الحصر والتحديد، فالأمر أكبر من أن يحيط به قلم كاتب.. فالأمر جلل ويمكن أن يختصر في قول واحد: أن كل تفاصيل حياتنا هي ضمن فضاءات الدولة المدنية العَلمانية الحديثة، وعبر وسائلها ومنجزها التقني والفكري والثقافي حتى! وبرغم ذلك فنحن غير واعين لذلك، وغير مدركين لحجم التناقض الهائل بين واقع الحال وبين لسان المقال.

هذا المقال الذي لا يفتأ يسب ويلعن الحضارة الغربية ويفسقها، ويبدعها ويكفرها ويصفها بالانحلال والفجور، ويدعو لتدميرها دبر كل صلاة جمعة أو جماعة، ويسعى حثيثاً ما وسعته الحيلة وأسعفته الوسيلة لإلحاق الأذى والدمار بها، بيد أن نفس هؤلاء الداعين لذلك والساعين إليه، سرعان ما يتهافتون للسفر والالتحاق بذات هذه الدول العلمانية الكافرة، وتلك الحضارة الفاسقة الماجنة، إما طلباً للعلاج والاستشفاء والاستجمام، أو طلباً للجوء هرباً من بطش إخوانهم في الدين وحكام دولهم (المؤمنون)! أو طلبا للأمن والأمان والحريات والكرامة الإنسانية، في أحضان العم سام أو الجد سانتا كلوز! ولكنهم لا يؤممون وجوههم صوب الدول الإسلامية، التي تعلن تطبيق الشريعة الإسلامية، أو تضع لفظ الجلالة على أعلامها. تجدهم يتناقلون، وبفرحٍ غامرٍ ودهشةٍ بليغة، أخبار وصور رؤساء ومسئولي الدول المدنية العلمانية، وهم يتجولون في الشوارع أو يقفون في صفوف الخدمة مع الجَمهور، أو يُحَاكَمون أو يُطَبَّق عليهم القانون سواءً بسواء، مع غيرهم من عامة الناس… إلخ، ولكنهم يعجزون عن الربط بين هذا الواقع وبين الفلسفة، التي أنتجت هذا النظام وهذه الطريقة الحضارية في الحياة!

إذاً، وكما ذكرنا سابقاً، فإن القدرة الفائقة على التعايش والحياة بين المتناقضات، دونما أدنى إحساس بالخلل أو الخجل أو الانزعاج، لهو حالة خاصة بالشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية، وتعد واحدة من أبرز سماتها وقلما توفرت أو وُجِدَت في غيرهم من أمم الأرض. فحتى الدين تحول عندنا لمحض طقوس شعائرية لا صلة لها بالواقع ولا السلوك، فالكل يصلى ويصوم ويحج وينادي بالدولة أو الخلافة الإسلامية… إلخ، ولكنهم يكذبون، يغشون، ينافقون، يهربون، يسرقون، يتلفون الممتلكات العامة، يلقون بنفاياتهم في الشوارع، يزعجون جيرانهم، يتعمدون مضايقة بعضهم في مناحي الحياة عامة …إلخ.

لقد صدق كاتبنا ومفكرنا الدكتور زكي نجيب محمود، بوصفه لحال العرب والمسلمون في كتابه “تجديد الفكر العربي”، في أواخر القرن العشرين بقوله: فهل أقول إننا في حياتنا الثقافية ما زلنا في مرحلة السحر، التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية، وأننا لولا علم الغرب وعلماؤه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي لا حياة لا تختلف كثيراً عن حياة الإنساني البدائي في بعض مراحلها الأولى! وصدق أيضاً كاتبنا ومفكرنا الباكستاني الدكتور محمد إقبال، قبله، في بواكير القرن العشرين في كتابه “تجديد الفكر الديني”، بقوله: إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على وقود يضاء منه، وأن الإنسان لكي يحصل كمالها معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو!

إن العقلانية والقيم الأخلاقية هي الحاضر الغائب في فضاءاتنا العربية والإسلامية، وهي الحاضر وبقوة في نصوصنا الدينية وأولها وأهمها على الإطلاق، هو القرآن الكريم، وفي الصحيح الثابت من السنة النبوية، وفي منهج وأفعال الصحابة الأول حقاً. وهي الغائب، وبشكل فاضح وفادح، عن واقعنا الراهن، والأغلب من تاريخنا القديم. وكيف لا تغيب، ومن مأثور تراثنا الفقهي أنه يمكن الإستنجاء بثلاث: الحجارة وعظام الحيوانات وكتب الفلسفة؟! وتبعاً لذلك فإن مَن “تَمَنْطَقَ فقد تَزَنْدَقْ”! فتسيد الفضاءات العامة، حينئذ، الجهلة وتجار الدين وفقهاء السلطة، وحارقي البَخُور والمشعوذين!

لا شك، إذاً، أننا نأكل الفطيسة برأس العود، وحرياً بنا والحال كذلك، أن نغمس أصابعنا وأيدينا فيها، أو أن نترك كل حياتنا الحالية ونقتحم الصحاري، لنبدأ من حيث توقف أسلافنا الأوائل، ولنجتهد من داخل الخيم والمضارب، وأن نبدع ونخترع ونؤسس لأنماطٍ جديدةٍ من الحياة، بحيث تكون مغايرة لنهج ووسائل الموروث من الفضاءات الغربية، ولنكون متسقين مع أنفسنا ومع ما ندعو إليه..

[*] وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هيئة الطاقة الذرية السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى