مناورات “حماة النيل”: رسالة سودانية – مصرية لإثيوبيا
الملء الثاني لسد النهضة ردّ من أديس أبابا على المناورات
انطلقت في السودان الأربعاء مناورات “حماة النيل” العسكرية بين الجيشين السوداني والمصري بولاية شمال كردفان (جنوب) لرفع القدرات واكتساب المهارات. وتعكس هذه المناورات حجم التقارب بين القاهرة والخرطوم الذي فرضه التعنت الإثيوبي في ملف سد النهضة أمام تهديد أديس أبابا بنزاع مائي محتمل في حال إصرارها على ملء ثانٍ للسد بشكل أحادي ودون اكتراث للاءات دول الجوار .
تتطور العلاقات العسكرية بين مصر والسودان بوتيرة متسارعة فيما يشبه الشراكة بين جارتين تواجهان تحديات إقليمية متشابهة، أبرزها سد النهضة الإثيوبي، على النيل الأزرق، الرافد الرئيس لنهر النيل.
فلم تمض سوى أشهر على تدريبات عسكرية جوية مشتركة، كانت الأولى بين البلدين، حتى يبدأ الجيشان مناورات برية وجوية جديدة، تحت اسم “حماة النيل 1”. وهذه الخطوات العسكرية المتناسقة بين البلدين العربيين تثير، بحسب متابعين، تساؤلات بشأن توقيتها في ظل تطابق موقفهما تجاه سد “النهضة”. وفي ما اعتبر محللون أن تمرين “حماة النيل 1” يمثل “إشارة” من الخرطوم والقاهرة، يبدو أن أديس أبابا ردّت عليها بالفعل، حيث حشدت قوات على حدودها مع السودان، وبدأت في ملء ثانٍ لسد “النهضة” بالمياه، وفق ما ذكره مسؤول سوداني وتقارير إعلامية.
أعلن الجيش السوداني السبت الماضي في بيان تمرين “حماة النيل” مع نظيره المصري بين 26 و31 مايو الجاري. وأوضح أنه “سيجرى تنفيذ تمرين (حماة النيل)، الذي تشارك فيه كل من القوات البرية والجوية والدفاع الجوي من الجانبين، في مناطق أم سيالة (شمال) والأبيض (جنوب) ومروي (شمال)، وهو امتداد لتمارين سابقة”.
في اليوم نفسه أعلن المتحدث باسم الجيش المصري العقيد تامر الرفاعي عن وصول قوات برية وبحرية وجوية مصرية (لم
يحدد عددها) إلى السودان للمشاركة في التمرين المشترك “حماة النيل”. وأوضح في بيان أن التمرين يعدّ “استمرارا لسلسلة التدريبات السابقة نسور النيل 1و2” في نوفمبر 2020 وأبريل 2021.
ونقلت وسائل إعلام عربية السبت الماضي عن الفريق عبدالله البشير، نائب رئيس أركان الجيش السوداني، قوله إن “القوات المشتركة ليست بالقليلة وهذا التمرين له ما بعده، فهو امتداد لعدة تمرينات مختلطة (مشتركة) مع مصر”. وتابع “التدريبات ليست معنية بشيء بعينه، وسد النهضة يمكن هو جديد، والتدريبات غير مرتبطة به، لكننا نقول إننا نستفيد من خبرات الآخرين، لنكون مستعدين للدفاع عن حقوقنا لأبعد الحدود”.
تتزامن المناورات مع تعثر مستمر لمفاوضات سد “النهضة” برعاية الاتحاد الأفريقي منذ أشهر. وأعلن كبير المفاوضين السودانيين في ملف السد مصطفى حسين الزبير خلال مؤتمر صحافي أن إثيوبيا بدأت بالفعل الملء الثاني للسد بالمياه.
تصرّ إثيوبيا على ملء ثانٍ للسد، يُعتقد أنه في يوليو وأغسطس المقبلين، بعد نحو عام على ملء أول، حتى لو لم تتوصل إلى اتفاق. وبينما يتمسك السودان ومصر بالتوصل أولا إلى اتفاق ثلاثي، للحفاظ على منشآتهما المائية، وضمان استمرار تدفق حصتيهما السنوية من مياه نهر النيل. وفي أقوى تهديد لأديس أبابا منذ نشوب الأزمة قبل 10 سنوات، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أواخر مارس الماضي، إن “مياه النيل خط أحمر، وأي مساس بمياه مصر سيكون له رد فعل يهدد استقرار المنطقة بالكامل”.
أشار المستشار الإعلامي للقائد العام للجيش السوداني العقيد الطاهر أبوهاجة إلى أن “حماة النيل 1” هو قناعة السودان ومصر الراسخة بضرورة العمل الاستراتيجي المشترك لمواجهة التهديدات المحتملة وضرورة التنسيق المحكم للدفاع عن المصالح الحيوية الاستراتيجية في البلدين. وأبرز في تصريحات صحافية أن هذا التمرين يأتي ضمن البرامج التدريبية المعد لها بين الجيشين السوداني والمصري. وأوضح أنه عبارة عن مناورات مشتركة بين القوات الجوية والدفاع الجوي والقوات البرية السودانية والمصرية، وتدار بواسطة غرفة قيادة مشتركة من قوات البلدين.
يرى متابعون أن توقيت المناورات العسكرية السودانية المصرية، وتسميتها حماة النيل، يمكن أن يُقرأ في إطار استعداد البلدين لحماية مصالحهما في مياه النيل، حيث من الواضح أن جيشي البلدين يعملان بتنسيق وتوافق تامين على تنفيذ أي عمل مشترك أكثر من أي وقت مضى. ودفع التعنّت الإثيوبي في ملف السد إلى تحقيق تقارب سوداني – مصري في ظلّ توتر علاقات الخرطوم مع أديس أبابا بشأن الحدود، وانعكس هذا التقارب خلال مساعيهما مؤخرا لتوظيف جولة المبعوث الأميركي جيفري فيلتمان الأولى إلى القرن الأفريقي لحض الإدارة الأميركية على الانخراط مباشرة في أزمة سد النهضة حفاظا على الأمن والسلم الإقليميين، من خلال استخدام علاقتها الجيدة بأديس أبابا والضغط عليها لإجبارها على توقيع اتفاق ملزم.
يصب تأخر حسم آلية المفاوضات في صالح إثيوبيا وليس مصر والسودان، ما يدفع القاهرة إلى التحرك سريعا للتوصل إلى تفاهمات أكبر مع الخرطوم تضمن السير في طريق مشترك ومواجهة التهديدات المحتملة بمناورات عسكرية مشتركة، مع وجود ما يشبه اليقين بأن أديس أبابا لن توقّع اتفاقا مُلزما. واعتبر عثمان فضل الله المحلل السياسي السوداني في تصريحات صحافية أن “هذه التحركات العسكرية هي بمثابة إشارات يرسلها البلدان في ظل التعنت الإثيوبي بشأن سد النهضة، وهذا دفع أديس أبابا، بحسب تقارير صحافية إلى حشد قواتها على الحدود السودانية”. وفي يوم إعلان التمرين المشترك، أفادت تقارير بأن إثيوبيا دفعت بحشود عسكرية وميليشيات من عرقية “الأمهرا” إلى حدودها مع السودان، وهي مزودة بعتاد حربي ورشاشات قناصة ومدافع ودبابات.
إلا أن فضل الله يستبعد نشوب حرب بين الدول الثلاث، لاسيما أن دولتين منهما (يقصد السودان وإثيوبيا) تعانيان مشاكل داخلية عديدة، خاصة السودان، فهو في وضع سياسي واقتصادي هش يجعله لا يفضل خيار الحرب. وزاد بأن “الجيش السوداني الآن في وضع جيد، لاسيما أنه لا توجد بؤر توتر كما كان سابقا، لكن جاهزيته للدخول في حرب قد لا تجد مؤيدا، فاقتصاد البلاد يعاني ولا يمكن أن يموّل حربا جديدة”.
يعاني السودان من أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، إلى جانب تدهور مستمر في عملته الوطنية وارتفاع مطرد في معدلات التضخم، ما أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع. وسجل معدل التضخم خلال شهر أبريل 363.14 في المئة، مقابل 241.78 في مارس الماضي. ويعيش السودان منذ أغسطس 2019 مرحلة انتقالية تستمر 53 شهرا تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، يتقاسم السلطة خلالها كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الخرطوم اتفاقا لإحلال السلام في 3 أكتوبر الماضي. واستطرد فضل الله “كما تعاني إثيوبيا مشاكل وأزمات داخلية، فإدارة رئيس الوزراء آبي أحمد، تواجه إشكاليات عميقة ولا يمكنها حاليا الدخول في حرب خارجية في ظل نزاع داخلي كبير”.
كانت اشتباكات اندلعت في نوفمبر الماضي في إقليم تيغراي الإثيوبي بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي و”الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” (الحزب الحاكم المحلي سابقا)، وهو ما فاقم الضغوط الدولية ضد أديس أبابا خاصة بعد اتهامها بارتكاب فظائع إنسانية في تيغراي. وقادت أعمال العنف في الإقليم إلى فرض الولايات المتحدة الاثنين، قيودا واسعة النطاق على المساعدات الاقتصادية والأمنية لإثيوبيا وحظرت منح تأشيرات لبعض مسؤوليها. وفي اليوم نفسه، ردت الخارجية الإثيوبية بالقول، إن هذه العقوبات لن تردعها، مشددة على رفضها لما اعتبرته تدخلا أميركيا في شؤون إثيوبيا الداخلية.
ويلفت المتابعون إلى أن تشعّب الأزمات في المنطقة يقدم لإثيوبيا هامشا من المناورة حيث يسمح لها بالتشويش على القضية الرئيسية وهي سد النهضة، ما يعني تفويت فرصة الاتفاق وديا على عمليات الملء والتشغيل ومراوغة المجتمع الدولي مرة أخرى.
العرب