تحقيقات

المتشردون : قصص وحكايات مأساوية ….   متشردة : المهجوري يعتدي علينا جنسيا

قصص وروايات تراجيدية تقطع نياط القلب روتها أفواه أطفال ركلهم الفقر إلى براثن الشارع الذي يحكمه (قانون الغاب) . ومنطق (البقاء للأقوى).. منهم من قضى نحبه تحت عجلات السيارات المسرعة أو قبضات القساة منهم أو بفعل السلسيون بعد ان تهتكت رئاتهم.. 
(قانون الغاب)
فكرت ملياً قبل أن أختار المجاري سكناً.. وبقايا المطاعم طعاماً، وشلة السلسيون أصدقاء.. ضقت ذرعاً من صراخ أمي ليلاً عندما تنهال عليها قبضة أبي «الثمل».. كنت أبكي عندما أرى أخواني الصغار يتكورون في ركن قصي في غرفتنا الشببهة بحظيرة الغنم، مرتعبين من صوت أبي يسب أمي ويرميها بالألفاظ النابية.. كنت أشعر بأنني أعيش في مستنقع قذر.. جوع حتى الأغماء بالنهار.. وخوف حتى الصدمة ليلاً.. هكذا تحدث لنا يونس الشاب ذو الحادي عشر  عاماً الذي خرج من بيت أسرته هائماً على وجهه وهو ما زال صبياً في السابعة، ساقة قدره إلى قاع المجتمع (المتشردين)  مجتمع لا رحمة في قاموسه.. يحكمه قانون الغاب «القوى يأكل الضعيف». آلاف الأطفال في عمره وأقل اختاروا الشارع هروباً من جبروت و قسوة الأسرة وسياط الظروف المعيشية.. منهم من كتب له الصعود إلى القمة ومنهم من لقى حتفه (بشمة) سلسيون أو تحت عجلات سيارة مسرعة وبات جسده (حقل تجربة) في كليات الطب!!
(دموع الحرمان)  
جاءت رواياتهم تبللها دموع الحرمان من دفء الأسرة وحنان الأم والأب. وسنوات الخوف التي ما زالت عالقة في أذهانهم. فأكثرهم ركلته قسوة الأسرة إلى أتون الشارع الذي يطفح اكثر قسوة، وقذارة.. وبالرغم من نتانة المجاري وفضلات الأطعمة.. وخشونة المرقد إلا أنهم فضلوا حياة «الشمس» على حياة الظل والجدران كما سردوا لنا بأن قلوب ذويهم أكثر تحجراً من قلوب عتاة المجرمين في الشارع، الطفل سمؤال محمد الفكي سرد لنا حياته قائلاً: كنت في الخامسة.. أمي كانت تستصحبني إلى السوق لأتسول معها، منذ الفجر حتى بعد مغيب الشمس لا أدري كيف كنت أتحمل رهق السير والتجوال كل هذه الساعات، أثناء وجودنا في السوق كانت أمي تبتاع لي «ساندوتش» طعمية.. بعده أدلق كوباً كبيراً من الماء لأسد فجوة الساندوتش الذي لا يكاد «يسلك معدتي».. وعندما أعود إلى البيت بعد الغروب أبحث عن أقرب فراش أرتمي فيه لا استيقظ بعده ألا في الصباح ويمضي بقوله – أول مشهد تستقبله عيوني معركة أبي مع أمي، و ينزع منها ما «جمعته» البارحة ولا يترك لها سوى أجرة المواصلات.. مللت العيش في هذا الجو.. ويواصل قائلاً: أثناء تواجدي مع أمي في السوق كنت أراقب أولاد في سني يدخنون السيجارة ويحملون قطعة قماش يضعونها في فمهم.. ولكن كنت أتقزز من ثيابهم البالية، رويداً رويداً بدأت اتقرب إليهم وأسألهم عن النقود التي يشترورن بها السيجارة فيقولون «نشتغلو في المطاعم» راقت لي هذه الفكرة.. فكرة العمل في المطاعم.. فقلت لأمي أريد ان أشتغل فأنتهرتني قائلة أصمت لا أريد ان اسمع منك حديثاً كهذا، وفي ذات يوم قررت أن أهرب منها.. وأنضممت إلى شلة كانوا يتجولون أمام المسجد الكبير في السوق العربي- ووجدت ان حياتهم ليست بها قيود تنوم أينما وكيفما أردت- تتناول طعاماً شهياً مقابل جهد قليل، وخوفاً من ان تعثر عليى أمي هربت إلى أم درمان، وهناك وجدت جيشاً من اولاد الشوارع يعملون في حمل عدة الشاي لبائعات الشاي مقابل مبلغ محترم. ولكن بالرغم من الحرية إلا أنني كنت أفتقد الحماية أعيش في خوفٍ دائم- كنا ننام في أسقف الدكاكين بعد عودتنا من السينما بعد منتصف الليل.. كان الكبار يعتدون علينا.. لم نكن نجد من يحمينا.. تعلمت تعاطي «السلسيون» أحياناً أغيب عن الوعي طوال النهار.. حياة قاسية مليئة بالخوف والفزع..  وبعد تركت الشارع ودخلت الى دار للتقويم   بتنا نتشوق إلى حياة الشقاء .. ولكن مع مرور الوقت ألفنا المكان والحمد لله تعالجت من ادمان «السلسيون».. وأزور أهلي أحياناً والآن بدأت أشعر بعد ان قضيت وقتاً طويلاً هنا بأنني يمكنني ان اعمل عملاً شريفاً وأسس أسرة، وسوف أتعامل مع ابنائي برفق حتى لا يتذوقوا مرارة القسوة مثلنا ويهربون.
 المتشرد الموهوب يونس  شاب هادئ الطبع يتحدث باقتضاب صاحب أنامل ذهبية يمتلك موهبة فذة في الرسم.. ورغم القسوة التي عاشها في الشارع في مكمنه يحمل أحساساً متسامحاً، وريشته تسرد فناً راقياً على نقيض «العتمة» التي وجد فيها نفسه وهو ما زال يافعاً بعد ان لفظته حياة الفقر والبؤس وجبروت الأب إلى بحر ملئ بالقاذورات من اعتداء وإدمان وسرقة وخوف من أي شئ.. يونس خرج من بيت الأسرة صوب الشارع وهو ما زال في السابعة من عمره هرباً من غضب ووحشية والده الذي يعود بعد منتصف الليل «مخموراً» ويعربد بقبضته في إجساد اشقائه ووالدته .. وفي الشارع وجد نفسه في وجه.. اللا إنسانية شكلاً ومضموناً.. كل شئ بالٍ فيه.. حتى الإحساس بالخوف يمتزج بالقذارة.. وشخبطاته على الجدران تعبر عن الرعب الذي يعيش فيه…. بعد ان صمت طويلاً استرسل قائلاً: «أول مرة منذ وعيت على الدنيا.. أنوم ملء جفني في اليوم الأول الذي دخلت فيه دار للإيواء  قبل سنوات  شعرت بأنني ولدت من جديد.. لذا لم استسلم للانكسار الذي احدثته حياة الأسرة أو الشارع. قررت أن اكون شيئاً وبدأت أطل على الحياة الهادئة الجميلة خلال ريشتي.
 (حكاية  عواطف) 
 يمتلك الرجل قدرة التعايش في مجتمع قانونه «القوي يأكل الضعيف».. بتركيبته البيولوجية والجسدية. لذا تمثل «المرأة» حالة شاذة في مجتمع يعتمد فيه أثبات الذات والبقاء بقوة العضلات، وتمثل «عواطف » ذات الثلاث عشر ربيعا  حالة شاذة بالرغم من وجود الكثيرات مثلها في الشارع مأواهن المجاري ومعيشتهن النشل، روت لنا حكايتها وتجربتها في الشارع بعد ان تركت أسرتها بسبب رفضهم لعريس تقدم للزواج منها فتقول: هربت من أسرتي وانا في سن الحادية عشر وآثرت أن اعيش في محيط لا قيود فيه ولا أوامر.. حسبت في أول الأمر ان العيش في الشارع يمنح الشخص  الحرية ولكن وجدت ان بالشارع آلاف القيود.. أوله الخوف من كل شئ من الاعتداءات الجنسية.. والأغواء.. ومطاردات الشرطة والاعتداء بالضرب إذا لم ترضخ لمطالب «المهجوري» والمهجوري لقب  زعيم المنطقة فهو يأخذ كل شئ دون مقابل.. والشارع تجد فيه القساة واللطفاء واللصوص وعتاة المجرمين.. وقد عشت تجربة مريرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. تعرضت للضرب.. والاعتداء.. ولكن كنت أملك قوة في الشخصية أقرر لمن أعطى المال أو أمنع، من حتى ولو تعرضت للضرب والركل لذا أحياناً كنت أجد الأعجاب من صديقاتي بنات الشارع اللائي اكثرهن كن يرضخن للطلبات دون أبداء أي رفض .. وقد كانت نهاية معاناتي وخوفي الدخول الى مركز  للفتيات بام درمان.. وجدت الطمأنينة والنوم بسكينة .. وحقيقة أنا ندمت على الخروج من منزل أسرتي وأقول للأسر لا تقسوا على ابنائكم أو بناتكم حتي لا يتعرضون للمتاعب كما نحن .. والآن أريد ان اعود إلى أسرتي بعد ان وعيت الدرس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى