مقالات

التقاعد

د. عزيزة

د. عزيز سليمان علي

في كثيرٍ من دول العالم النامي يحدد سن التقاعد في الستين، ويجب الإشارة بأن هذا التحديد جاء في زمنٍ كان متوسط العمر المأمول أقل بكثير مما هو عليه الآن، في مشارف القرن الواحد وعشرون، والذى وصل فيه متوسط العمر المأمول عالمياً إلى 66 سنة. ولذا فإن سن التقاعد السارى فى أيامنا هذه، قد يحرم المرء ذا المقدرات والخبرات القيمة من القيام بأعمالٍ تعود عليه بالآثار الإيجابية, اجتماعياً، صحياً ونفسياً وحتماً اقتصادياً. ولذا حددت الدولة 65  كعمر للتقاعد، وليعلم الجميع أن حرمان الفرد من مواصلة عمله ليست به أي جدوى اقتصادية، وأن الاعتقاد بأن بُعد كبار السن من مواقع عملهم يوفر للشباب فرص عمل، فهذا مفهومٌ خاطئ وبه نوع من التمييز يضر بالاقتصاد، وذلك نسبةً لفقدان جدارة وكفاءة عالية. ومن ناحيةٍ أخرى، تتعرض صناديق التقاعد إلى حد الإنهاك، حيث تدفع الرواتب التقاعدية إلى مدىً طويل.

بالعالم المتقدم، بعض الدول ألغت نهائياً نظام التقاعد، ووضعت مبدأ العمل للجميع دون الالتزام بسن معينة. وفى السودان الكثير من المسنين يعملون بأعمالٍ حرة متعددة، فى مجالات مختلفة مثل الزراعة، التجارة والصناعة وهم يعملون إلى سن متأخرة، ولا يتوقفون عن العمل إلا عند حدوث مرض يمنعهم من القيام بأعبائهم. فى كثير من دول العالم يكثر المعارضون للتقاعد الإجباري، ويظنونه خطأ من الناحية الأخلاقية، ويعتقدون أن مبدأ التقاعد وتحديد سن التقاعد يسلب الأفراد الحق فى كسب العيش، وهذا يتعارض مع الحرية الشخصية وإخلالاً بمبدأ تكافؤ الفرص.

المنظور الإسلامي، يركز على أنه، وإن فارق الإنسان عمله الرسمي لسببٍ أو لآخر، فإن نشاطه لا يجب أن يتوقف، فكم من نبيٍ وعالمٍ وقائدٍ ضرب أروع الأمثلة في العطاء، وقد بلغ من الكبر عتياً، لكنهم يتدفقون بالحيوية والنشاط. وتجدر الإشارة بأن الإسلام لا يحدد عمراً معيناً توضع فيه التكاليف والمسئوليات، وليست فيه سن تقاعد عن العمل.

تغيير نمط الحياة من حياةٍ مسؤولةٍ مليئةٍ بالأعباء، إلى نمطٍ جديدٍ مليئٍ بالفراغ والملل، يدعو للقلق. فالمتقاعدون في بداية سن التقاعد يتمتعون بمقدراتٍ فيزيائيةٍ وعقليةٍ كبيرة، تمكنهم من أداء أكثر الأعمال التي تحتاج إلى خبرةٍ واسعة، وإدراكٍ متزن، وهنا يتقلص دور المُسِن فى مجتمعاتنا، وتبدأ حاله المتقاعد في التردي وهنا بيت القصيد. ففي بلادنا لا يوجد نظام عام للتأمين الاجتماعي، والذين ينعمون به قلة وهم الذين كانوا يعملون بالدولة، أو بعدد من الشركات والبيوتات التجارية الكبرى. وفي الماضي عندما يبلغ الإنسان سن التقاعد، يكون قد أمن أسرته من سكنٍ ورعايةٍ صحيةٍ وتعليم، وعند التقاعد يكون التأمين الاجتماعي الذي يصرف له يكفى لتسيير حياته وحياة أسرته. أما الآن، لسوء الأحوال الاقتصادية، أصبح المعاش لا يفي بالاحتياجات الأساسية للمعاشيين، ومن هنا تبدأ الإشكالات.

مرحلة التقاعد تعتبر مرحلة هامة في حياة الإنسان، والكثير منهم يصف هذه الحالة حين استلام وثيقة التقاعد بمثابة شهادة وفاة لهم. فحين يتقاعد الإنسان يفقد الاهتمامات للأشياء ويكتئب نفسياً، ويعتبر بأنه يعيش على هامش الحياة، وفى رأيهم أن الدولة تفقد كوادر مدربة ذات خبرة طويلة في المجالات العملية المختلفة. والمتقاعدون يعانون مشاكلٍ عدة في الحياة العامة, كسوء الأحوال الصحية، وعدم وجود التسهيلات العلاجية اللازمة, والتزاماتهم المالية نحو أسرهم، وصعوبة إجراءات صرف المعاش وقلته. وكثير من المتقاعدين، يرون أنه من الضروري إيجاد عمل آخر، ليشبعوا فيه رغباتهم الوظيفية والمهارية.

المسن هو الطبيب, وهو السياسي المحنك وهو العسكري المتمرس, وهو صانع القانون وهو المبدع، وهو الأديب والفنان فكيف يمكن عزلهم عن المجتمع؟ كيف نستعيد مسار خبراتهم وطاقاتهم؟؟ وهم بلغوا سن الكهولة وهي فترة العطاء، وسن الشيخوخة وهي النضج والحكمة. وقد أبدى الكثير منهم عدم ارتياحهم بسبب الضغوط الكثيرة التي تقع على عاتقهم من الالتزامات العائلية في الاحتياجات الأساسية. ويطالب المعاشيين الآن بمنحهم تسهيلات في السكن، العلاج, تعليم الأبناء, إيجاد فرص عمل أخرى، توفير مدخلات إنتاج للقيام بمشاريعٍ تنمويةٍ صغيرة, توفير مواصلات… إلخ تساعدهم على التنقل من مكانٍ لآخر. وأخيراً فهم يطالبون بإنشاء نوادي ثقافية خدمية ترفيهية، على نهج المراكز النهارية بالدول الأخرى.

التأكيد على أن كبار السن هم ثروة بشرية لها دور كبير في التنمية، ولذا يجب رسم السياسات والخطط لاستثمار طاقاتهم وخبراتهم. وعلى الدولة أن تراجع سياساتها في التقاعد الإلزامي بدقة، مع مراعاة مصلحة الفرد والاقتصاد القومي ورفع سن التقاعد للقادرين على العطاء، أو إلغاء الإحالة للتقاعد الإجباري إلى حين يطلبه الموظف، مع رفع قيمة المعاش سواء عند الربط في نهاية الخدمة، أو الزيادة السنوية لمواجهة الحياة، وحل المشكلات الاقتصادية للمسنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى