مقالات

الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية: رابعةُ الغول والعنقاء والخل الوفي،،

أ.د. عامر عباس حمد[*]

أ.د. عامر عباس حمد

من مأثور مستودع الحكم والأمثال العربية ثلاثة ليس اليهم من سبيل: الغول والعنقاء والخل الوفي… كناية عن الاستحالة في التحقق والتجسد كوقائع معاشة في دنيا البشر، وكشكل من أشكال الأساطير، ولكن مع ذلك فلا يعدم أن تجد من يؤمنون بوجودها  أو بعضها…!

وهكذا الحال فيما يبدو بالنسبة لوهم،، الخلافة ،، الإسلامية أو الدولة ،، الإسلامية ،، سواء في أذهان الحركات الاسلاموية وبعض الأحزاب الأخرى كحزب التحرير الإسلامي وغيرهم من جماعات التطرف والإرهاب كتنظيم القاعدة وداعش، أو أحلام وأشواق جموع غفيرة من عامة المسلمين..

ولكن في حقيقة الأمر أن هذا الحلم لم يتحقق وهذه الأشواق لم تتجسد أبداً في الواقع المعاش طيلة تاريخنا البعيد.. وبالطبع لن تتحقق في حاضر أو مستقبل الأيام والسنين وذلك لعدة أسباب بعضها ديني وبعضها تاريخي وبعضها حضاري..

فعلى مستوى الدين الإسلامي فلا يوجد – قولا واحدا-  ما يدلنا أو يدل غيرنا إن صدق على وجود مؤشر ولو وحيد يتيم لضرورة تأسيس دولة من حيث الإطلاق! فضلاً عن أن تكون خلافة إسلامية أو دولة إسلامية… فالإسلام لم يكن أبداً ديناً ودولة كما يرفعه شعاراً المتاجرون بالدين، ويزايدون عليه ابتزازاً لعواطف المتدينين من البسطاء والعوام، أو كثير من النخب الأكاديمية في مختلف التخصصات، والتي هي والعوام في المعرفة الدينية غالباً سواء كركبتي البعير يقعان معا ويقومان معاً..

بل الإسلام دين وأمة.. يعنى بشأن الفرد وبصلاح المجتمع عبر منظومة من القيم الأخلاقية، والمبادئ واسعة الإطار وذات المرونة العالية من جهة، وعبر منظومة محدودة جداً من التشريعات والمحرمات المعلومة والقاطعة في تحديدها من جهة أخرى، وما بين هذا وذاك فضاء واسع متروك للفرد، ولعقله ولاجتهاده ولكسبه ومحصلة تجاربه وتراكم تجارِب الآخرين المشتركين معه في الإنسانية وهو فضاء محكوم ومحدد بقاعدة: أن الأصل في الأشياء هو الإباحة إلا ما حرم ومنع بنص..

ولمثل هذا كانت كل الأديان والشرائع السماوية الغراء..

لذا فلم ينظر لما هو سياسوي في فقهنا الديني العام، باعتباره أصلاً من الأصول وهذا موقف صحيح، ولم يهتم به كما فعل مع غيره من حقول المعارف الأخرى وأهمل.. وهذا خطأ مميت ولعله نتج عن سيادة الطغيان والاستبداد في ماضينا الحافل بذلك، مما جعل غالب الفقهاء والمحدثين يؤثرون السلامة، ويغرقون أنفسهم في فقه الصلاة والطهارة والحيض والنفاس، مما يتندر به عليهم في كثير من الأحيان.. وهو موقف دفعت الأمة الإسلامية ثمناً باهظاً له ولا تزال حيث لم نراوح قط محطة الاستبداد باسم الدين وباسم غيره أو إراقة الدماء والفوضى.. دونما إرث يسعف أو إرادة مبدعة لفهم جديد أو وسيلة أكثر رقياً..

الشاهد أن الرسول الكريم قد انتقل للرفيق الأعلى ولم يضع أو يأمر أو يشير لنظرية سياسية أو منهج يتبع أو وسيلة تحتذى فيما يتعلق بإدارة الشأن العام، لذا إشتجر كبار الصحابة من مهاجرين وأنصار في سقيفة بني ساعدة وكادت السيوف تخرج من أغمادها وجثمان الرسول الكريم الطاهر لم يوارَ الثرى بعد.. ثم انتهى الأمر لنتيجة أجبرت إبن الخطاب على ترداد مقولة ذائعة وداوية في دلالاتها كلما تذكر الناس تولية الخليفة الأول: كانت فلتة وقى الله المسلمون شرها ..

فكيف صارت الفلتة قاعدة دينية يكفر من يرفضها أو يناقشها أو يطرح بديلاً عنها؟! هذا هو السؤال الكبير وفي ثنايا الإجابة يطل البعض من علماء السوء و فقهاء  السلطة وتبرز المتاجرة بالدين…

لقد احتار الأوائل حتى في اسم من ولي الأمر بعد الرسول الكريم حتى استقروا على لقب خليفة والذي سرعان ما تغير إلى أمير المؤمنين فيمن تلاه مباشرة.. ولعل المتمعن في خُطْبة الخليفة الأول يدرك جيداً استناده للمشروعية الشعبية وليس الدينية فحين يؤكد: ،، وليت عليكم ولست بخيركم..،، فهو يستند على الخيرية السياسية.. كيف لا وليس بين الحضور من هو خير منه من الناحية الدينية ..؟!

أما من الناحية التاريخية فمن الثابت من وقائع التاريخ أن الأمر قد تحول لملك عضود منذ أحداث ما يعرف بالفتنة الكبرى  وأهدرت قيمة الشورى والمساواة بين بني آدم والكفاءة ورضى العامة، وصار الأمر دولة بين ذهب المعز وسيفه ورسخ التوريث قانوناً نافذاً على مدار التاريخ وحتى الراهن المعاصر، وارتكبت خلال ذلك وباسم الخلافة المدعاة جرائم عظمى وفساد في الأرض كبير، وكتب التاريخ في ذلك تغني عن كثير تفصيل، وقد تغطى كل ذلك بثوب الدين واجتهد في إسباغ مشروعية عليه بشتى الوسائل والسبل وامتد ذلك لوضع الأحاديث والتشجيع على الدس فيها بشكل واسع..

لقد دارت صراعات وحروب ومؤامرات لا تعد ولا تحصى  داخل أروقة الحكم وسالت دماء كثيرة للظفر بكرسي الحكم وعم عدم الاستقرار الفضاءات السياسية  مما ينفي وبشكل عملي كون الخلافة من أمور الدين ولكنها من حقول المعارف البشرية فيما يتعلق بالأنسب لكل زمان ومكان، وقد دارت نقاشات كثيفة حول الأمر قديما وكان من المؤمل أن تقود لإبداع حلول أكثر فاعلية في مقابل الأيام لو ترك لها المجال ولكنها للأسف لطالما قمعت وصولا للعصور الحديثة حيث نجد ما صاحب ظهور كتاب،، الإسلام وأصول الحكم،، للشيخ على عبد الرازق من استعادة لظاهرة محاكم التفتيش الفكرية إبان عصور الظلام الكنسي في أوربا أو عصور تكفير واضطهاد الفلاسفة والعلماء في المجتمعات الإسلامية..

لقد أوضح الشيخ على عبد الرازق بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام ليس به نظرية محددة للحكم السياسي، وأن الأمر محض اجتهاد بشري خاضع لتراكم الخبرات والمعرفة ولذلك جن جنون المهووسين دينياً فكفر وطرد من الأزهر وجرد من لقبه العلمي، ثم لاحقا اعتذر الأزهر عن كل ذلك وتراجع …

أما من الناحية الحضارية فقد كانت النتيجة المنطقية والطبيعية لقمع الحريات واستبعاد الشورى واعتماد العنف والتوريث وسائل وحيدة للحكم السياسي هو تخلف وانحطاط الأمة الإسلامية حيث انهارت حضارتها التي تأسست بفعل قانون القصور الذاتي لحركة البعث والنهوض الأولى الهائلة حتى سنة 23 من العام الهجري بكل ما احتوته من قيم ومبادئ ظلت تفعل فعلها حتى خارت قواها وتلاشت وأستدام التسلط والاستبداد.. وفي أثناء ذلك نهضت مجتمعات وتقدمت أمم وتغيرت كثير من المفاهيم والنظرة لأنفسنا وللعالم المحيط بنا من مختلف الجوانب، واستطاعت الحضارة الغربية المعاصرة عبر فلاسفتها ومفكريها وعلمائها من حل إشكالية السلطة وعلاقة الدولة والمواطن عبر صيغة العقد الاجتماعي والنظام الديمقراطي ونموذج الدولة المدنية.. بل وتغير شكل الدول نفسها وتعقدت العلاقات فيما بينها عبر حركة تطور دينامية مستمرة بما أفرز واقعا جديدا مختلفا كلي الاختلاف عما سبقه وبما لا يقاس عليه أو يقارن به …

كل ذلك وما سبقه يجعل من فكرة الدولة الدينية أو الخلافة الإسلامية أمراً مستحيلاً من الناحيتين المنطقية والعملية.. فمنطقياً لأن ذاك أمر مناهض للمبدأ الديني نفسه والذي لم يدعوا لذلك أبدا ولا يقبل بالكهنوت الديني أيا كان شكله أو مستواه ..

وعملياً لأن كل التجارِب التي تحققت عبر التاريخ القديم والحديث أثبتت فشلها الذريع في جميع المستويات ولم تنجح سوى في الفساد والقمع والاضطهاد ورفض الاختلاف والعمل على استدامة التخلف بكل أشكاله، ولعل في تجرِبة الحركة الإسلامية الأخيرة في السودان في 1989م عبر الانقلاب العسكري لم تنتهي إلا بتأكيد كل ما ذكر دون استثناء …

إن الذين يحتجون بوجود الشورى في القرآن، أو بما ورد في سورة المآئدة في ثلاث مواضع:

– ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

– ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.

– ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم المجرمون .

أو بدولة المدينة …

نقول لهم بأن الشورى،، قيمة،، ولابد من وسائل وأدوات لتحقيقها.. إذن فأينما وجدت الوسيلة أو الأداة فذاك ثم وجه الله.. ديمقراطية كانت أو ما يستجد غيرها في مقبل الأيام.. ونقول لهم بأنهم لم يفهموا سياق ما ورد من الآيات القرآنية في سورة المائدة ولا خبروا لفظها على وجهه الصحيح..

فالسياق في أهل الكتاب وفي إطار،، القضاء،، أو التقاضي فيما يتعلق بالحلال والحرام وليس بالسلطة السياسية!

فالقضاء حكم،، بين،، الناس، والسلطة حكم على الناس.. وما كانت العرب ولا لغتهم تعرف التقاضي إلا بلفظة الحكم، بينما تستخدم مفردات وألفاظ أخرى في مجرى السياسة والشان العام كأهل الرأي أو صاحب الرأي أو زعيم القبيلة، أو سيد العشيرة، أو الأمير، أو الملك أو السلطان أو القيصر وصنوه كسرى.. وهو الشائع والمتداول حتى الراهن في ممالك وإمارات وسلطنات الخليج العربي..

فالأمر هنا إذن ينصرف إلى الحلال والحرام والى القضاء وليس إلى السلطة السياسية… فكثير من الناس يغفل عن كون اللغة كائن حي كما الإنسان تتبدل وتتغير على مر الزمان…

وللذين يلجأون للمدينة المنورة وما كان فيها فقد سبق وأوضحنا كيف أنها تمثل أول نموذج عملي للدولة المدنية وأنا وثيقتها تمثل أول اتفاق مكتوب في تاريخ البشر يتفوق على مبادئ العَلمانية الحديثة بكل قيمها الإيجابية في بحثنا المعنون: جذور الأزمة في عالمنا الثالث ثقافية: العَلمانية في السودان نموذجاً،، فليرجع إليه من أراد تفصيلاً أكبر ..

لقد ألغى كمال أتاتورك الخلافة في تركيا في 1925م وعلمن الدولة وصدر كتاب الشيخ علي عبد الرازق المشار إليه أعلاه بعد سنوات قلائل من ذلك رداً على الداعين لمحاولات إحيائها وتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين..

وحديثاً جداً، وفي إطار مشاورات الحكومة التركية لاقتراح تعديل الدستور.. وفي حين تحدث رئيس البرلمان التركي،، كهرمان،، ممثل حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم عن أنهم سيعملون على إسقاط المواد التي تنص على علمانية الدولة من الدستور الجديد..

كان أول من غضب ورد عليه هو الرئيس رجب طيب أردوغان وقال له: سأكون أول من يتصدى لكم ويرفض ذلك… لأن لا ضمان لازدهار تركيا واستقرارها الا بالمحافظة والتأكيد على علمانيتها، وهو من نصح الحركات الاسلاموية بالقبول بخيار العلمانية.. وعليه فنحن نعيد التأكيد، مرة أخرى، على أن ثمة خلل ما لدى الرافضين للعلمانية والداعين للدولة أو الخلافة الإسلامية عليهم تداركه وبسرعة …

إن من المستحيل إرجاع عجلة الزمن إلى الخلف، في ما يتعلق بالدولة الحديثة، وشكل الحكم ونهجه المدني العلماني الديمقراطي، بل العالم الحر الآن يسعى حثيثاً ويتطلع لمزيد من التجويد والتطوير، والارتقاء نحو الأفضل، ونحو مزيد من الحريات وكرامة البشر..

وأخيراً، فلكل واهمٍ أو مخدوعٍ، نقول ونؤكد: إذا وجدت واحداً من الثلاثية المذكورة في عنوان بحثنا هذا، فمن الجائز حينها أن تجد الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية..

[*] وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – هيئة الطاقة الذرية السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى