
الرؤيتان السعودية والصينية للأمن الإقليمي… مرتكزات ثابتة وتحركات متباينة

باكو: لم تكن مصادفة أن تتلاقى الرؤيتان السعودية والصينية في ضرورة ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بما تحظى به من أهمية جيواستراتيجية في خرائط التحركات الدولية والإقليمية، بل إن ما يلفت الانتباه هو تزامن طرح البلدين لمبادرتين للأمن الإقليمي، وهو ما يدل على مدى وعيهما بحجم القضايا الساخنة والمعقدة في تلك المنطقة، بما يؤثر بدوره على الأمن والاستقرار العالميين، الأمر الذى يوجب ليس فقط على الأطراف الإقليمية الفاعلة بل على المجتمع الدولي القيام بدور إيجابي في تدعيم الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما أكدته الصين في كثير من المرات من خلال حرصها على ضمان الأمن بما يحافظ على مصالحها الحيوية في إطار مبادرتها المعروفة بالحزام والطريق والتي تمثل منطقة الشرق الأوسط مرتكزا رئيسيا في نجاحها.
ومن هذا المنطلق، يأتي التوافق أو التطابق في الرؤيتين السعودية والصينية حيال الأمن والاستقرار في المنطقة، وهو ما توضحه القراءة الدقيقة لمرتكزات المبادرة الصينية التي أطلقها وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، خلال زيارته لعدد من دول الشرق الأوسط، أواخر مارس (آذار) 2021، مع الأخذ في الحسبان أن ما تضمنته هذه المبادرة لم يكن الأول من نوعه، بل طُرحت بعض بنودها من قِبل الصين للمرة الأولى في 27 سبتمبر (أيلول) 2019، عندما شارك وزير الخارجية وانغ في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتكررت بعض بنودها الأخرى في خطابه في مجلس الأمن في 20 سبتمبر 2020. وقد شملت المبادرة خمسة محاور رئيسية على النحو الآتي:

الأول: الدعوة إلى الاحترام المتبادل
إذ يرى الجانب الصيني أنه في ضوء ما تتمتع به منطقة الشرق الأوسط من خصوصية نابعة من تاريخ الحضارة الفريدة، يجب احترام هذه الخصائص والأنماط المميزة لدول وشعوب المنطقة، وهو ما يستوجب تغيير العقلية القديمة التي تنظر إلى المنطقة نظرة المنافسة الجيوسياسية فقط، بل يجب اعتبار دول الشرق الأوسط شركاء للتعاون والتنمية والسلام. ويجب دعم جهود دول الشرق الأوسط لاستكشاف طرق تنموية بإرادتها المستقلة، ودعم الاعتماد على دول المنطقة وشعوبها لإيجاد حلول سياسية لملفات سوريا واليمن وليبيا وغيرها من الملفات الساخنة. ويجب تعزيز الحوار والتواصل بين الحضارات وتحقيق التعايش السلمي بين كافة الشعوب في تلك المنطقة.
الثاني: الالتزام بالإنصاف والعدالة
أدرك الجانب الصيني أن القضية المركزية في المنطقة رغم تعددية قضاياها هي القضية الفلسطينية التي يستوجب حلها في إطار منطق «حل الدولتين»،تحقيقا للعدالة والإنصاف. وفي هذا القبيل ترى الصين ضرورة دعم جهود الوساطة الحثيثة للمجتمع الدولي بغية تحقيق هذا الهدف، بل ترى أن الأمر قد يحتاج إلى عقد مؤتمر دولي ذي مصداقية في حال تهيئة الظروف، بل يمكن أن تلعب الصين دورا داعما في هذه القضية سواء من خلال تعزيز حضورها في مجلس الأمن أثناء رئاسته للمجلس في مايو (أيار) القادم (2021)، أو من خلال إمكانية استضافة شخصيات محبة للسلام من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لإجراء الحوار في الصين، بل قد تدفع الظروف- وفقا للرؤية الصينية- بعقد مفاوضات مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الصين.
الثالث: منع انتشار الأسلحة النووية
لم يكن من المنطقي أن لا تتناول المبادرة الصينية ملف إيران النووي، إدراكا لخطورته على أمن المنطقة واستقرارها، وهو ما دفعها إلى دعوة الأطراف كافة إلى اتخاذ خطوات ملموسة فيما بينهم بهدف تقريب المسافة، عبر البحث في وضع جدول زمني وخارطة طريق لعودة الولايات المتحدة وإيران إلى الوفاء بالتزامات الاتفاق الشامل بشأن ملف إيران النووي. ومما يلفت الانتباه فيما طرحته بكين في هذا الملف مطالبتها المجتمع الدولى بضرورة دعم جهود دول المنطقة في إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وهو ما ينسحب على الملف النووي الإيراني ومن قبله الإسرائيلي كون وجود أسلحة دمار شامل في المنطقة من شأنه أن يعيق الأمن والاستقرار.
الرابع: الأمن الجماعي والهموم المشروعة لكافة الأطراف
تلك هي الرؤية التي تطرحها الصين لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، عبر دفع دول المنطقة إلى إجراء حوار وتشاور من خلال مبادرة صينية لاستضافة حوار متعدد الأطراف بشأن أمن منطقة الخليج والبحث عن آلية بناء الثقة في المنطقة، بدءا من مواضيع ضمان أمن المنشآت النفطية والممرات الملاحية، وصولا إلى إقامة منظومة أمنية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة في الشرق الأوسط بخطوات تدريجية.

الخامس: تسريع وتيرة التنمية والتعاون
تدرك بكين أن تحقيق الأمن والاستقرار الدائمين في الشرق الأوسط يحتاج التنمية والتعاون والترابط، وهو ما يتطلب العمل على:
- تضافر الجهود لمواجهة الجائحة، وسرعة تحقيق التعافي اقتصاديا واجتماعيا.
- معاونة دول المنطقة في عبور مرحلة إعادة الإعمار ما بعد الصراعات. وفي هذا الخصوص، أبدت الصين حرصها على مواصلة إقامة المنتدى الصيني العربي للإصلاح والتنمية ومنتدى أمن الشرق الأوسط، وتعزيز تبادل الخبرات مع دول المنطقة حول الحكم والإدارة.
السعودية سبقت المبادرة الصينية
تكشف تلك المحاور التي تضمنتها المبادرة الصينية عن تطابقها مع الرؤية السعودية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، بل ما يلفت الانتباه أن الرؤية السعودية كانت قد تضمنت كثيرا من المبادرات التي سبقت المبادرة الصينية بمحاورها الخمسة، تدل على ذلك مبادرتان رئيسيتان تقدمت بهما المملكة ضمن رؤيتها لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، وهما:
الأولى:تتعلق بمبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية عام 2003 والتي أكدت أن حل الدولتين هو الحل الأمثل لترسيخ السلام في المنطقة، وهو ما يتطابق مع ما تضمنته المبادرة الصينية في محورها الثاني.
الثانية:تتعلق بالمبادرة الأخيرة التي طرحتها المملكة- مع ضرورة التأكيد على أن ثمة مبادرات سابقة طرحتها المملكة في هذا الخصوص- والتي هدفت إلى إنهاء الأزمة اليمنية والتوصل لحل سياسي شامل، وذلك من خلال الاتفاق على وقف إطلاق نار شامل تحت مراقبة الأمم المتحدة، وإيداع الضرائب والإيرادات الجمركية لسفن المشتقات النفطية من ميناء الحديدة في الحساب المشترك بالبنك المركزي اليمني بالحديدة وفق اتفاق استكهولم بشأن الحديدة، وفتح مطار صنعاء الدولي لعدد من الرحلات المباشرة الإقليمية والدولية، وبدء المشاورات بين الأطراف اليمنية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية برعاية الأمم المتحدة بناء على مرجعيات قرار مجلس الأمن الدولي 2216، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني الشامل، ويذكر أن هذه المبادرة كانت محل ترحيب وتأييد من جانب الصين كما جاء على لسان وزير الخارجية الصينى بقوله: «إنها تعكس جدية الرياض لحل هذه الأزمة». مع الأخذ في الحسبان أن الأمر لم يقتصر على هاتين المبادرتين فحسب، بل تعدان المبادرتين الأكثر أهمية ومحورية في ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة.

تعاظم الدور الصيني
في ضوء كل ما سبق، نخلص إلى القول إن الرؤية الصينية الهادفة إلى ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة تأتي من منطلق حماية المصالح الصينية التي أضحت محل تهديد في ضوء تصاعد المخاطر والتحديات التي تتزايد وتيرتها في المنطقة، إذ إنه في مرحلة سابقة كان البعض يرى أن عدم إقدام الصين على طرح مبادرات بشأن الأمن في المنطقة إنما يرجع إلى عاملين:
الأول: تراتبية أهمية المنطقة في الاستراتيجية الصينية في الفترات السابقة، فلم تكن المنطقة تأتي في مرتبة متقدمة من أولويات الاستراتيجية الصينية التي كانت تبحث عن بناء الدولة داخليا وفي محيطها الإقليمي المباشر، إلا أنه في مرحلة لاحقة تمددت مصالح الدولة الصينية وارتبطت في إطار رؤيتها الحزام والطريق منذ انطلاقها عام 2013 بمنطقة الشرق الأوسط بما دفعها إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بها.
العامل الثاني:يتعلق بطبيعة الدور الأميركي في تلك المنطقة، إذ مثّل الوجود الأميركي القوي وخاصة في شقه العسكري ضمانة للأمن والاستقرار في المنطقة وتأمين ممرات نقل الطاقة بما يضمن حماية إمداداتها من المنطقة، وهي الحماية التي شهدت تراجعا نسبيا مع إعادة تموضع أهمية المنطقة في الاستراتيجية الأميركية بما أدى إلى تصاعد التهديدات الأمنية التي تنعكس سلبا على المصالح الصينية المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يفرض عليها تحمل جزء من عبء المسؤولية عن الحماية، ويفسر ذلك إقدام الصين على إبرام اتفاقية التعاون الاستراتيجي لمدة 25 عاما مع إيران، وهي تلك الاتفاقية التي تضع العديد من علامات الاستفهام حول سياسة بكين حيال قضايا المنطقة بصفة عامة وأمن الخليج في ظل التهديدات الإيرانية المتصاعدة بسبب برنامجها النووي والصاروخي على وجه الخصوص.
وبناء عليه، تأتي المبادرة الصينية للأمن والاستقرار والتي لم يكن مضمونها جديدا فيما تتبناه الصين في سياستها تجاه دول المنطقة، ليؤكد على مدى الاهتمام الذي توليه الصين للمنطقة وأمنها واستقرارها، بل مما يزيد هذا التأكيد ما أقدمت عليه الصين مؤخرا بإطلاق مبادرة أمنية جديدة حملت عنوان «مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية بشأن أمن البيانات»، هدفت منها بكين إلى التأكيد على المستوى العالي للتعاون الاستراتيجي الصيني العربي، إذ تصبح الدول العربية بذلك أول منطقة في العالم تتصدر مبادرات أمن البيانات بالاشتراك مع الصين منذ أن أطلقت الصين في سبتمبر 2020 مبادرتها العالمية لأمن البيانات.
نهاية القول إن تعاظم الدور الصيني في شؤون المنطقة وقضاياها رغم ما قد يحققه من مردودات إيجابية على التقارب بين الطرفين وخاصة في المجال التنموي، إلا أنه يحمل بدوره بعض التحديات الواجب على بلدان المنطقة الانتباه إليها حتى لا تتكرر ذات الأخطاء التي وقعت فيها هذه البلدان حينما فتحت أبوابها على مصراعيها أمام الوجود الأميركي الذى ظل يوظف قضايا المنطقة بما يحقق مصالحها على حساب مصالح شعوبها، فهل يمكن أن يتكرر ذلك مع الصين ولكن بأدوات مختلفة وبرؤى متباينة أم ستتخذ دول المنطقة الفاعلة وفي مقدمتها مصر والسعودية زمام المبادرة بإنقاذ شعوب المنطقة من مستقبل مظلم يهدد أمنها ويدخلها في أتون صراعات جديدة ظاهرها اقتصادي وباطنها أمني وسياسي؟ هذا هو التحدى الأوجب بالبحث عن آليات لمواجهته.
المجلة