السماديت وتلفيق ثقافات الشعوب
الأمين موسى محمد الحسن
كل ما أعرفه عن لبس الجارة ارتريا وشعبها العظيم هو “الفوطة”. التي كنا نتندر بها لقرب اسمها من اسم الفوطة النسائية في السودان عموماً، وشرق السودان تحديداً. والفوطة أصلاً، هي لبس لكثير من أهل الساحل البحر الأحمر ومن أخذ من ثقافتهم. وأصل الفوطة من بلاد الجاوا واندونيسيا، والفوطة السمرقندي هي أفضل أنواع الفوط وأجملها. وتسمى في السودان بالقرقاب أو القرباب، لتشابهها مع القرقاب النسائي، إذ أن القرباب تستخدمه النساء فقط، وهذا لا يعيب الفوطة المصوعية أو اليمانية في شيء.
وقد رأينا في الآونة الأخيرة ما يسمى بيوم السماديت العالمي، وهو يوم عالمي للكذب كان يجب أن يكون في بداية أبريل، فمن أين أتى هذا التلفيق العالمي؟
بدايةً وردت السماديت في رواية سمراويت، للكاتب الارتري حجي جابر، واصفاً حال أحد أبناء اريتريا المناضلين، وهو يلتحف بشال معه في الحل والترحال، واسمه السماديت. ونجد أن حجي نفسه لم يطلق اسم السماديت على كل الزي التي نحن بصدده اليوم، والموجود الآن وهو الزي السوداني الأصيل، الذي ورد في أغاني وردي والكابلي ومحمد البدري، وتم التأصيل له في أشهر أغنية تحدد ملامح الزي السوداني:
يا بلدي ياحبوب
أبوجلابية وتوب
سروال ومركوب
جبة وصديري
وسيف وسكين
ياسمح يازين
حين يغني السودانيون هذه الأغنية، التي تمثل النشيد الوطني، لا يمر بذهنه ما يسمى سماديت، وإنما يتجلى له وجه وردي السوداني الأصيل.
وترنم به ابن سواكن الأصيل، علم فن الشرق والسودان، عبدالكريم الكابلي، في اغنيته “خال فاطمة”، حين قال مادحاً:
ياخريف الرتوع أبْشَقَّة قَمَر السبوع
خال فاطمة..
ومن يستمع للكابلي وهو يردد “خال فاطمة”: ابكريق في اللِّجَجْ اتْحَكَّر حَبَسْ الفِجَجْ، و”مدرج العاطلة” لا يتبادر إلى ذهنه إلا صورة السوداني أَبْشَقَّة قمر السبوع، والشقة هي “الشقة السواكني” التي تبدو من بياضها، وكأنها قمر السبوع، فمن أين بالله عليكم أتى إلينا هؤلاء بكذبة سماديت؟
نعود إلى التلفيق العالمي الذي يحدث من شعب لا يجد لنفسه إلا التلفيق في الثقافة والفن والأدب و”الجنسية والأصل والزي”، ولا اقصد هنا عموم شعب ارتريا العظيم، ولكن شرذمة فقدت هويتها، ويبدو أنهم فقدوا حتى جلابيبهم وسراويلهم، فماذا بقي غير ذلك؟
ألم يكن يكفي لهم مشاركة ياسمح يازين؟
ألم يكن يكفي مشاركة شَقَّة قمر السبوع؟
ما الداعي للتدثر بالثقافة السودانية وسرقتها وادعاء أنها ارترية؟
إن الثقافة السودانية لا تعرف أي حدود، ولها التأثير السوداني الجميل على باقي الشعوب، وليس غريباً أن نجدها تمتد حول أفريقيا كلها ببساطة وتلقائية، ولكن هذا لا يعني سرقتها والتدثر بها من قِبَل الغير!
نعود إلى السديري نفسه، وتلفيق كذبة سماديت ، كل أهل الشرق عامة والبجا خاصة، يترنمون مع محمد البدري إذ يقول:
توسديري وهال قالو
اوبجا كسان سنابا
وهذه أغنية بجاوية تُؤصِّل للأخوة بين الشعوب، وتنشر الثقافة بكلمة وأغنية، ومعنى البيت المترجم هو:
كل من يرتدي السديري حالي من حاله وهو أخي
ولم يذهب البجا كثيراً في وضع حدود لمن يرتدي هذا اللبس، وجعلوا كل من يرتديه هو أخ لهم في كل شيئ. بعكس السماديت التلفيقية التي تشبه السم في اسمها، بل هي سُمٌ ثقافي يُرَوَّج له كل عام، وفيه إقصاءٌ وسلب لحقوق الآخرين. وهنا يراودني سؤال: هل أتى هؤلاء عرايا حتى لا يكون لهم إرثٌ ثقافي حتى في الملبس الذي يفتخرون به؟
إن التاريخ الحاضر يشهد أن أهم مكانٍ لتطوير الأدب والثقافة البجاوية هم حواضر سواكن قديماً، وبعدها كسلا ومن ثم بورتسودان. وكلٍ من تلكم المدن شَكَّلت أدباً وتراثاً خاصاً، فسواكن أعطتنا الشقة السواكني التي غنى بها وردي كاملة، وكسلا وأهلها بطبيعة حياتهم التجارية في الماشية ورعايتها وطبيعة أرضهم الطينية الجميلة، أهدونا اللبسة المبسطة من الشقة السواكني وتفننوا فيها، إذ تجد السروال قصيراً يتناسب مع الحركة والقميص مختصر يشبه العراقي ولا يوجد به ياقة، ولكن السديري مركز الشخص تجده أكبر وأوسع وأفخم ما لديه، فهي تتدلى عليه بجيوبها الكبيرة التي تحمل أموال التجارة وتسمى- سديري قاشايايت- نسبة لأهل القاش. وتأتي أم مدائن الشرق ومنبع حضارة البجا الحديث “بورتوسودان”، وأخص هنا ديم أرب، حيث تفنن الشباب في تجميل وهندمة اللبس في كل شيء. فوجدنا علامات الكبر والغرور في -الفافتياي- وهو السروال المنتفخ، الذي يُجَر على الأرض ويكوّن ما يشبه الذيل الطاووسي خلف من يرتديه. وأيضاً تفنن شباب ديم ارب في القميص، وجعلوه أضيق من تفصيل أهل القاش وبقية السودان، وتركوا ياقته مرتفعة تماثل الثوب السعودي، وكأنهم يحتفظون لسواكن وأختها جدة بشيء من الشكر لإهدائهم هذا الزي الجميل، وتركوا صدره مفتوحاً بدون أزرار، ويخبىء صدرهم العراقي السوداني المميز حفاظاً على منهج الثقافة السودانية الجميلة وهكذا هم أهل ديم عرب، والبجا يحتفظون بالود القديم وإن طال الزمن ولا يجحدون أحداً شيئاً.
وأهم معلم أورثه ديم عرب هو “السديري”، وما أدراك ما سديري ديم أرب. احتفظ للكابليين والهنود بحقهم الثقافي في نسق السديري العام، في اللون الغامق بين الأسود والبني والأزرق، من الصوف الإنجليزي، وغيره من الأقمشة، والمزاج العام للسديري هو الصفاء واللون والتناسق. ونجد أن أهم ما يميز سديري ديم عرب، هو ضيق الخصر، إذ أنها تحتضن الشاب البجاوي وتقسمه في هيئته الرجولية الرشيقة، ويعود الفضل لكثير من مبدعي البجا من الخياطين مثل هميتروب وعلى دايسنا وعبدالله وغيرهم كثيرين، الذين تفننوا في إرضاء ذوق شباب ديم العرب، وكانت المحصلة هي ما يسمى اليوم شقة ورثة نسبة لحي قديم كان يمتاز بصخب الحياة وروعتها. وورثة كانت عنفوان الشباب المتجدد، الذي أصر عليه أبناء ديم عرب، وقاوموا كل التندر والرفض لتغيير الشقة السواكني المهيبة وتحويلها إلى علامة للطاووسية الشبابية الجديدة.
واليوم تحولت شقة ورثة الى علامة فارقة في الزي البجاوي وغيره، ولم تعد الكلمة نفسها ذات تأثير سلبي، وها نحن اليوم نجد أن كل هذا التاريخ للزي السوداني الأصيل يتلقفه “أحمد شيكاي”، الذي كان مقيماً في السودان كـ(لاجئ) من ارتريا، ويبني على فهم مغلوط من رواية سمراويت الارترية، أيضاً أن لبس يا سمح يازين وورثة وابشقة قمر السبوع، هو “إرث ارتري”، ويعلن أنه يسمى سماديت وينقاد خلفه كل من ليست له ثقافة ولا إرث!
فمن أين أتى هؤلاء الذين لا نجد لهم إلا التلفيق في التاريخ والجنسية والأرض والعادات وحتى الزي؟ أليس لكم أرض تحبونها ووطن تستبشرون لاسمه وإرثٌ يغنيكم عن السرقة؟
لقد مللنا التلفيق والكذب على تراثنا وفننا وأرضنا، واليوم نراكم تجردون أنفسكم “عرايا”، وتريدون أن ترتدوا ملابسنا بزعم يوم عالمي للكذب.
من أين أتيتم يا هؤلاء؟!