لا بوادر مبشرة لكسر الجمود في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، بل على العكس ما تزال الأجواء الغائمة سيدة المشهد، في ظل مؤشرات تلوح في الأفق من شأنها أن تزيد التباعد أكثر مما هو بعيد، لاسيما بعد وصول الرئيس المنتخب، جو بايدن إلى البيت الأبيض.
لم يتصل بايدن الذي تولى الرئاسة في يناير الماضي بنظيره الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان حتى الآن، وهو موقف تقف خلفه أبعاد وتداعيات ورسائل، ورغم أنها لم تخرج إلى العلن بصورتها الكاملة، إلا أن التحرك الذي يعتزم الأول اتخاذه في الأيام المقبلة قد يساعد في تذكيتها باتجاه التوتر والتصعيد أكثر.
ويتمثل التحرك بما كشفت عنه وسائل إعلام أميركية الأربعاء، إذ أفادت أن بايدن يستعد للاعتراف بالمجازر التي طالت 1.5 مليون أرمني خلال الحرب العالمية الأولى على يد الإمبراطورية العثمانية باعتبارها “إبادة جماعية”.
وذكرت صحيفتا “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال” أنه من المقرر أن يعلن بايدن تصنيف المجازر “إبادة جماعية” السبت المقبل في الذكرى الـ106 لعمليات القتل الجماعي التي بدأت عام 1915، عندما كانت الإمبراطورية العثمانية تقاتل روسيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى في المناطق الأرمينية.
وبهذه الخطوة وإن تمت سيكون بايدن أول رئيس أميركي يصف المجازر بأنها “إبادة”، وهو ما تجنبه أسلافه من الرؤساء، آخرهم دونالد ترامب، وقبله باراك أوباما.
وسبق أن اعترف الكونغرس الأميركي رسميا بالمجازر على أنها إبادة جماعية في ديسمبر 2019 في تصويت رمزي.
ومؤخرا، بعث أكثر من 100 عضو في الكونغرس على رأسهم آدم شيف، الرئيس الديمقراطي للجنة المخابرات في مجلس النواب، برسالة إلى بايدن، يحضونه فيها على الوفاء بتعهده بالاعتراف بالإبادة خلال حملته الانتخابية.
وقالت الرسالة “على مدى عقود بينما يعترف القادة في جميع أنحاء العالم بأول إبادة جماعية في القرن العشرين، حافظ رئيس الولايات المتحدة على صمته”.
الأرمن: التبعات سياسية
بالانتقال إلى أصحاب القضية الجوهرية، وبينما لم يصدر أي موقف رسمي من يريفان بشأن ما يعتزم بايدن الإقدام عليه، يقول أكاديميون من أرمينيا إن خطوة بايدن في حال اتخاذها سيكون لها أبعاد استثنائية، “لكنها لن تتعدى الأطر السياسية”.
“هاكوب مقديس” محاضرٌ جامعي في “أكاديمية الإدارة العامة في جمهورية أرمينيا” يرى أن أهمية اعتراف بايدن بـ”الإبادة الجماعية” تأتي من مسارين، الأول كونها ترتبط بـ”تحديد المصطلح كما هو”، أما المسار الثاني فيتعلق بـ”تاريخ أميركا، وكيفية تعاطي رؤسائها السابقين مع وصف هذه القضية”.
ويضيف مقديس لموقع “الحرة”: “لو نظرنا إلى تاريخ أميركا لم يستخدم الرؤساء السابقون هذه الكلمة (إبادة جماعية). فقط رونالد ريغان في 1981 هو الذي استخدمها والآن بايدن ليكون أول رئيس أميركي بعد ريغان”.
ويشير الأكاديمي الأرمني إلى أن “أميركا سوف تضغط سياسيا لكن ليس أكثر من ذلك، لاسيما مع استمرار تأزم العلاقة بين الرئيسين التركي إردوغان والأميركي بايدن”.
واستبعد مقديس أن يكون هناك آثار سلبية أخرى قد تنجم عن اعتراف بايدن، ويتابع: “هناك أكثر من 26 دولة معترفة بالإبادة الجماعية. هذه الدول تربطها حتى الآن مع تركيا علاقات حميمية واقتصادية وعلاقات جيوسياسية”.
وكانت 30 دولة قد اعترفت بـ “الإبادة الأرمنية”، من بينها فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولتوانيا وبلغاريا وهولندا وسويسرا واليونان والأرجنتين وأوروغواي وروسيا وسلوفاكيا والنمسا.
ويتابع مقديس: “يجب على تركيا أن تتخذ موقفا واعترافا من جانب أخلاقي وتاريخي وإنساني وأن تتحمل مسؤوليتها التاريخية ضد نفسها وضد شعبها، من خلال الاعتراف بهذه المجازر الجماعية التي ارتكبت بين 1914 و1923”.
أنقرة تستشعر الخطوة
وثمة ترقب وحذر يسود في أنقرة، والتي استشعرت في وقت سابق هذه الخطوة، وبدا ذلك على لسان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو منذ أيام، وتلته الرئاسة التركية.
وفي لقاء متلفز له على قناة “ntv” هذا الأسبوع قال جاويش أوغلو: “البيانات بدون التزامات قانونية لن يكون لها أي فائدة، لكنها سوف تضر بالعلاقات (…) وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تجعل العلاقات أكثر سوءا، فإن هذا القرار يعود لهم”.
وأضاف الوزير التركي: “في الماضي أدلى رؤساء الولايات المتحدة بهذا الادعاء. تقدم دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية العديد من التذكيرات إلى البلدان الأخرى. إذا أخذت الولايات المتحدة القانون الدولي في الاعتبار، فلن تتخذ مثل هذا القرار”.
من جانبه، أصدر فخر الدين ألتون، رئيس دائرة الإعلام والاتصال في الرئاسة التركية، بيانا، الخميس، قال فيه إن إردوغان ناقش مع المجلس الاستشاري الأعلى عدة ملفات وقضايا، بينها “افتراء ما يسمى الإبادة الجماعية للأرمن”.
وأضاف ألتون: “صرح الرئيس إردوغان بأنهم سيواصلون الدفاع عن الحقيقة ضد كذبة ما يسمى الإبادة الجماعية للأرمن، وأولئك الذين دعموا هذا الافتراء بحسابات سياسية”.
وفي غضون ذلك كان هناك موقف لأحزاب المعارضة التركية، أبرزها “حزب الشعب الجمهوري”، والذي اعتبر زعيمه، كمال كلشدار أوغلو، أن “هذا الخطاب غير مقبول”، في إشارة منه إلى التقارير المتعلقة بتصنيف ما حصل للأرمن كـ”إبادة جماعية”.
وأضاف في تصريحات نقلتها وسائل إعلام معارضة الخميس: “أدعو السيد بايدن والإدارة الأميركية إلى التصرف بمسؤولية وحكمة بطريقة لا تضر بالعلاقات الاستراتيجية بين البلدين الصديقين والمتحالفين، ودعم الخطوات التي من شأنها إحلال السلام في جنوب القوقاز”.
أضرار غير قابلة للإصلاح
رغم أن الإمبراطورية العثمانية تُتهم بالضلوع في تلك الأحداث، إلا أن تركيا ترفض بشدة وصف ما حصل للأرمن في تلك الحقبة بالمجزرة أو “الإبادة الجماعية”، وتقول إنها “مأساة” لكلا الطرفين.
وتعد هذه القضية شديدة الحساسية بالنسبة إلى تركيا في هذا الوقت بالذات، وخاصة في ظل العلاقات المتأزمة بين أنقرة وواشنطن، على خلفية عدة ملفات، أبرزها صفقة منظومة الصواريخ الروسية “s400”.
المتخصص بالقضايا السياسية والأمنية في الشرق الأوسط، علي باكير، يقول إن هذه الخطوة سيكون لها تبعات على العلاقات الأميركية-التركية، حسب باكير الذي يضيف: “ستترك أضرارا غير قابلة للصلح، وندوبا عميقة ستعمّق من الأزمة بينهما”.
ويتابع الباحث في تصريحات لموقع “الحرة”: “ستدفع تركيا باتجاه خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها على المستوى الإقليمي والدولي، وهذا لن يصب في نهاية المطاف في صالح واشنطن، سيما في ظل تراجعها على المستوى الدولي، وهو الأمر الذي أصبح واضحا للعيان”.
القضايا ستتعقد
ما تحدث به باكير يتوافق مع وجهة نظر الباحث بالشأن التركي، محمود علوش، والذي اعتبر أن أي “إعلان أميركي في الأيام المقبلة سيكون سياسيا ورمزيا ولن تكون له أي أبعاد قانونية”.
ورغم تقليل الخبراء من الآثار القانونية لإعلان بايدن إن تم، إلا أنهم لم يستبعدوا الآثار السياسية، والتي قد يكون وقع تداعياتها كبيرا، لاسيما في ظل غياب أي بادرة تحسن للعلاقات بين الطرفين.
ويقول علوش في تصريحات لموقع “الحرة”: “إعلان بايدن سيزيد من الضغوط على علاقات لا تحتمل المزيد من التوتر في هذه المرحلة، وسيعكس حجم الصعوبات التي ستواجه أنقرة في عهد بايدن. في الواقع اعتاد الأتراك على لجوء خصومهم إلى نبش التاريخ في كل مرة من أجل الضغط عليهم أو إدانتهم”.
ويرى الباحث التركي أن مثل هذه الخطوة ستغضب تركيا، ويتابع مستدركا: “لكنّ ردّها سيكون محسوبا على الأرجح لتجنب الوقوع في فخ التصعيد”.
ويشير علوش إلى أن أنقرة حريصة على إطلاق بداية غير متوترة مع إدارة بايدن لمعالجة القضايا الخلافية الملحة بينهما، لكن ومع ذلك فلن يساعد مصطلح “الإبادة الجماعية” في تهيئة بيئة مناسبة لهذه الانطلاقة.
ويذهب في نفس الاتجاه، مدير السياسات بمركز “ديفنس بريوريتي” للأبحاث الأمنية بواشنطن، بنجامين فريدمان، الذي يرى أن رد الفعل التركي سيكون محسوبا ولن يكون طويل المدى.
وقال فريدمان لموقع قناة “الحرة”، إنه “من الصعب تحديد كيف سترد تركيا على اعتراف بايدن بمذبحة الأرمن”، مضيفا أن الاعتراف “من المؤكد، سيعكر صفو الدبلوماسية، وستعاني العلاقات -المشحونة بالفعل- بين الولايات المتحدة وتركيا”.
وتابع فريدمان “لكني أعتقد أن الضرر سيكون مؤقتا، وستتجاوزه تركيا”، مؤكدا على أن تركيا تعتمد على القوة الأميركية في نفس الوقت، وأن “هذا الأمر لن يتغير”، حسب رأيه.
الحب ليس بالإكراه
على مدار الأيام القليلة الماضية خرجت انتقادات وصفت بالساخنة من أنقرة وواشنطن، وفي مقابلها كان هناك اتصالات باردة لم تكسر حالة الترقب التي سادت على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، والتي ارتبطت بسؤال أساسي: “كيف ستكون العلاقة بين أنقرة وواشنطن بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض؟”.
ويجمع مراقبون وخبراء أن كسر جمود العلاقة بين الجانبين لن يكون بالأمر السهل، وخاصة في عهد بايدن الذي سبق وأن وصف إردوغان بـ”المستبد”، الأمر الذي يفتح سؤالا آخرا عن مآلات هذا الحال وتداعياته، لاسيما أنهما حليفان في حلف شمال الأطلسي، أي ضمن معسكر غربي واحد.
أحمد أويسال مدير مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط لا يظن أن يطلق بايدن مصطلح “الإبادة الجماعية”، ويقول: “ما زال هناك وقت ونقاش ولا أتوقع أن يعترف بذلك”.
ومع ذلك يضيف مدير المركز المقرب من الحكومة التركية أن المصطلح قد تكون له تداعيات قد تذهب بالسلب على الولايات المتحدة الأميركية، كون تركيا ستجبر لتعميق علاقاتها مع روسيا والصين على نحو أكبر.
ويوضح أويسال لموقع “الحرة”: “أميركا تهمل تركيا لكنها ستحتاج لها في الأيام المقبلة وستندم على ذلك. الروس يتحدون والصين في صعود. هناك تحولات جذرية في كل العالم وأمريكا تحتاج إلى تركيا أكثر من احتياج تركيا لأمريكا. رغم ذلك يبقى الحب ليس بالإكراه”.
من جانب أخرى، ترى المحللة الأميركية، بمركز “نيو لاينز” للاستراتيجيات والسياسات بواشنطن، كارولينا روز، إن “اعتراف جو بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن في الذكرى 106، والذي طال انتظاره لم يكن خطوة مرحبا بها في أنقرة”.
وأضافت روز أن “إردوغان، سيبدأ بتوضيح وجهة نظره في انتقاد الخطوة الأميركية، كما أصدر بالفعل تحذيرات بشأن الاعتراف (بالإبادة) والذي سيخلق مشاكل داخل الناتو”.
لكن، ترى الخبيرة الأميركية أن “أنقرة لن تتخذ موقفا جريئا أو جذريا ضد الولايات المتحدة، فأنقرة ترغب في السير بحذر، بينما تقرر الولايات المتحدة استراتيجية دقيقة في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، وسياستها مع تركيا”.
وأشارت الباحثة إلى أن تركيا ستتخذ موقفا في ملف الإبادة الأرمينية لـ “حفظ ماء الوجه”، لكنها ستكون أكثر حذرا كي لا تغضب واشنطن، خاصة في ظل التوترات القائمة، مثل الخلاف القائم بين أنقرة وواشنطن بخصوص منظومة S-400، وبجانب التنقيب والاستفزازات التركية في شرق البحر المتوسط، وتوتر العلاقات التركية الأوروبية.
من الغرب إلى الشرق
أمام ما سبق من استشراف لخبراء بشأن ما سيكون عليه غدا بين أنقرة وواشنطن، يذهب مراقبون إلى خارج الحدود، ويشيرون إلى أن اعتراف بايدن بـ”الإبادة الجماعية” قد يعرقل المصالحة بين أنقرة ويريفان عاصمة أرمينيا.
الصحفي المقرب من دوائر صنع القرار في أنقرة، رجب صويلو نقل الخميس عن مسؤول تركي رفيع المستوى قوله إن “اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية قد يعرقل المصالحة مع أرمينيا، بعد حرب ناغورنو كاراباخ”.
ويعتقد المسؤول التركي أن الخطوة الأميركية “ستؤدي إلى نتائج عكسية وستضعف العلاقات التي تضررت بالفعل بسبب مجموعة من الخلافات، بما في ذلك شراء أنقرة لأنظمة الصواريخ الروسية S-400”.
من جانبه يشير الباحث والخبير التركي، هشام جوناي إلى أن التوتر قائم بين أنقرة وواشنطن، سواء اعترف بايدن بـ”الإبادة الجماعية” أم لا.
ويقول جوناي لموقع “الحرة”: “منذ توليه السلطة لم يتصل بايدن بإردوغان، في إشارة أنه غير راض عن الرؤية التركية أو السياسات التركية بشكل عام في المنطقة، وغير راض عن حكومة إردوغان”.
ويضيف الباحث التركي: “إذا تم هذا الأمر واعترفت أميركا بالإبادة الجماعية ستنعكس الآثار السلبية على العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة”.
ويعتبر جوناي أن التصعيد في حدة التوتر لا يصب في صالح أميركا ولا تركيا.
ويتابع: “لأن أميركا بهذه المواقف تبعد تركيا عن حاضنة حلف شمال الأطلسي وتقطع حبال الوصل بينها وبين تركيا من خلال ذلك، وتدفعها إلى تحالفات جديدة مع الصين وروسيا وإيران”.
ويتوقع الباحث أن “يكون هناك إيجاد صيغة أو تأجيل الاعتراف لعام آخر. الاعتراف إذا تم فعندها ستنزلق تركيا من محورها المعترف به والمعروف منذ تأسيس الدولة الحديثة وهو الغرب إلى الشرق وهو المحور الذي يعادي الغرب”.
وبينما يرى محللون أن تركيا ستتضرر من هذا الاعتراف، فإن مدير برنامج الدراسات التركية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) بواشنطن، أيكان إردمير، يرى أن الرئيس التركي قد يستغل الاعتراف بالإبادة لصالحه داخليا.
وأضاف إردمير “سترى حكومة أردوغان في ذلك، فرصة لتأجيج المشاعر المعادية لأميركا داخل تركيا والاستفادة من الخلاف الدبلوماسي، لتحويل انتباه الناخبين الأتراك بعيدا عن الانهيار المالي المستمر في البلاد”.
وقال إردمير في تصريحه لموقع “الحرة”، إن “الحالات السابقة التي اعترفت فيها الحكومات الغربية بالإبادة الجماعية للأرمن، تظهر أن “رد فعل أنقرة الفوري سيكون قويا ولكن من غير المرجح أن يستمر طويلا”.
وأضاف إردمير، أنه من المرجح أن يعود الرئيس التركي إلى العمل مع الولايات المتحدة كالمعتاد -كما فعل في الماضي مع الحكومات الأخرى- وذلك بعد فترة من ردة الفعل الأولى.
أسوشيتد برس