مقالات

مراجعات منهجية “2”

رداً على د. عامر عباس (أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟..)

د. محمود محمد حسن

مشكلة قراءة التراث كانت وستظل متأرجحة بين غلاة في الثقة بالمنتج التراثي إلى درجة الإفراط، وجفاة في الموقف ضده

د. محمود

إلى درجة التفريط، واليوم تعلو أصوات الشق الثاني كرد فعل طبيعي من قبل المخلصين، أو مصطنع أحياناً على يد المغرضين الذين لا ينكر عاقل وجودهم في كل ساحة فكر مهما كان. ولقد تطور الهجوم العنيف على التراث اليوم ليتجاوز مسائل وقضايا جزئية طالما علا طنينه بها سواء في أحكام الأسرة والميراث، أو الحكم، أوالعقوبات.. ليجهد في محاولة دك الأصول والمناهج كالتشكيك في السنة، أو رفض مبدأ النسخ، أو الإجماع مثلاً، ويساعد أصحاب هذه الهجمة كل المساعدة ويمدهم بأقوى الأسباب أن في التراث هنات ومشكلات لم يتجاسر العلماء إلا أقلهم على طرحها للنقد فضلاً عن نقدها عملياً فأصبحت محميات فكرية؛ أو كما يقول المناوئون: مقدسات! .. تلك هي الحقيقة المؤسفة.

بين يدي مقال أزعم أنه يسير في درب التطرف المضاد للتراث كما سيتضح إن شاء الله، وقد عنون الكاتب د. عامر عباس لمقاله بـ (التراث الفقهي الموروث، والجناية على الإسلام- محمد بن إدريس الشافعي نموذجاً)، وهو عنوان قاس كما نرى، ومن حق المؤلف وهو رجل مثقف وذو درجة علمية أن يقسو بموضوعية وأن يلصق التهم كما شاء ما سلك سبيل البرهنة العلمية والحجاج المنطقي طويل النفس، لكن للأسف بدا المقال متسرعاً غير متماسك كيد راعشة تمسك بفأس كبيرة، ولعل في العنوان نفسه نلمس التسرع فكيف يوصف التراث بعد بأنه موروث، فهل يورث إلا التراث؟ فكلمة تراث وحدها تفي بكونه موروثاً، وهذا ملحظ هين إلى الآن.

يبدأ الدكتور الفاضل المقال بتقريرات خطيرة وبلغة جازمة، فبعد كلامه عن دور الاستبداد السياسي الذي هو في نظره نتيجة للجهل وسوء التوظيف – بحسب عبارته – في خلق واقع بئيس ومنحط في كل المستويات عززه الأمويون[ وهو كلام شديد العمومية فقد حافظت الامة عبر قرون على قيم وإفرازات حضارية مشرقة، وإنجازات مدنية يشهد لها العدو قبل الصديق]، ..بعد تلك الفذلكة التاريخية يقرر لنا بكل سهولة أن الإمام أبا حامد الغزالي قد وضع من بعد الأرضية ورسم المنهج لهذا الجهل الذي تسبب في ظهور التكفير والإرهاب والتطرف!

   ومع أن الكاتب يرمي بغرضه من المقال تطويق الإمام الشافعي تحديداً بشق الطريق ووضع المنهج للتطرف وتضييق الأفق إلا أنه هنا قفز إلى الغزالي، ولعل ذلك بسبب ما اشتهر به الإمام الغزالي من تكفير الفلاسفة في مسائل الإلهيات المشهورة، وهو كدارس للفلسفة تأخذه الحمية للفلاسفة خاصة!.. ولا أريد الخوض هنا في تلك القضايا ورد ابن رشد وغيره، لكن لا بد من فهم أمر وهو أن التكفير هنا جزئي تجاه الفكرة لا عيني شامل، وقد وضَّح هذه النقطة في كتابه: (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) حين تكلم عن الزندقة المقيدة. من ناحية أخرى لم تكن غاية الغزالي في (تهافت الفلاسفة) إقامة البرهان على الحقيقة، بل كانت غايته بيان عوار منهج الفلاسفة في الإلهيات حتى فيما وافقهم فيه كمسألة خلود النفس!، وقد وضح الغزالي بكل أمانة أنه معتمد بالكلية على نقل الشراح المسلمين وهما الفارابي ثم ابن سينا، ولا نخفي عيباً حين نوافق من قال إنه قد كتب التهافت بإيعاز من السلطان، إذ لا يعني ذلك البتة خضوعه لإملاءات السلطة نفاقاً وتزلفاً كما يدعي كثيرون فقد كانت سوق الفلاسفة من جهة والباطنية من جهة نافقتين جداً لدرجة جعلت الكلاميين جميعاً يستشعرون الخطر على العوام، فالأقرب أن يكون السلطان هو المستجيب لرؤية علماء السنة ومصانعتهم آنذاك لا العكس. ومن الجدير بالذكر أن الغزالي لا يعيب الفلاسفة كل العيب وإنما يلومهم في انعطافهم عن الرياضيات والمنطق والحسيات التي هي مضمار منهجهم إلى الكلام في الإلهيات والتي يرى أنه لا سبيل بغير الوحي لمعرفتها.

قد لا يكون الإمام الغزالي موفقاً كل التوفيق في تكفيره مقولات قدم العالم، وكلية علم الله، وإنكار حشر الأجساد،.. ولكن هذا الخطأ المفترض ليس فتحاً لباب تكفير الأمة بأي حال كالذي صنع أتباع سيد قطب أو الذين حملوا كلامه أسوأ المحامل، أو داعش وأخواتها، أو نعار الوهابية المهووسون!.. فقضايا الغزالي عالية المستوى، عويصة الفهم ذات طابع نخبوي، فالغزالي لم يكفر مجتمعاً إسلامياً، ولم يعمم تكفيره للشيعة أو المعتزلة مثلاً، كيف يفعل ذلك ولب التصوف الذي انتهى إليه بعد رحلته الطويلة إنكار الذات، والإشفاق على الخلق، والتسليم لإرادة الخالق فيهم!

أما بالنسبة للإمام الشافعي فقد جعله الكاتب صانع العقل الإسلامي التراثي [أو اللاعقل] وهو بذلك يضائل من دور العلماء المجايلين ومن بعده، فالشافعي وحده بطل إفساد التراث الإسلامي برمته، ولا جرم أن هذه الاختزالية هي في ذاتها إشكالية منهجية تنافي مبدأ التراكمية الذي يتمسك به أساتذة الكاتب الوضعيون، أما كيف حدث ذلك فباختصار شديد لأن الشافعي في نظره هو صاحب براءة اختراع اعتماد السنة أصلاً موازياً للقرآن، فالكاتب لا يسلم من السنة مصدراً إلا السنة المتواترة، بل وليس جميعها وإنما العملية منها فقط!.. وهنا قبل نقاشه في حجية ما عدا المتواتر [الآحاد] نلحظ خللاً منهجياً صارخاً إذ مفهوم التواتر في ذاته واحد سواء بالنسبة للعملي أو القولي، فهو يقوم على الاستفاضة التي ينفي السياق الحالي أن تكون مقصودة ومرسومة وهو ما يعبر عنه الأصوليون لكلا النوعين باستحالة التواطؤ على الكذب!..فالتواتر يفيد علماً ضرورياً وعاماً وهنا لا ميزة للعملي على القولي، أما تقديم العملي من المتواتر على غير المتواتر من القوليات فهذا أمر آخر إذ بالمطلق يقدم التواتر على النقل الأحادي؛ بل يقدم أحياناً ما قد لا يبلغ التواتر من العملي إذا اختص ببيئة الرسالة وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله في تقديم عمل أهل المدينة. لقد كان الكاتب على مسلك ما لو رد التواتر برمته كنوع من السفسطة القديمه في إنكار مبدأ إفادة التواتر العلم، ولكنه هنا يتجاوز السفسطة نفسها إلى التناقض في قبول دليل عقلي من وجه دون وجه بلا مبرر يتكرم بتقديمه للقارئ!

الذي يقف على كلام الكاتب يخيل إليه أن علماءنا تعاملوا مع أحاديث الآحاد بثقة ساذجة ومطلقة ولعله لا يدري أن الشافعي ممن وضعوا الضوابط الدقيقة لقبول النصوص وقد أشار الكاتب نفسه إلى ذلك حين ذكر أن من المحققين من يجعله مؤسس علم مصطلح الحديث!..وسأسوق هنا كلمات معدودة للشافعي من الرسالة ليعلم أن الأمر لم يكن بتلك البساطة حيث يقول الإمام:” ولا يستدل على أكثر الحديث إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه[i]

والعجيب أنه يبرئ الإمامين أبا حنيفة ومالكاً من وصمة جعل السنة الآحادية مصدراً للتشريع، وهي تهمة يتشرف تراث الإمامين بالبراءة منها، ولعله لا يدري أن الإمام مالكاً لا يعمل بالآحاد في أعلى درجاته فحسب من حيث اتصال السند، بل يعمل حتى بالمرسل الذي يتشدد الشافعي جداً في قبوله!

وفي حين نجد الإمام مالك بن أنس يقدم للإسلام تحفته الحديثية الكبيرة (الموطأ) الذي كان الشافعي نفسه من رواته، لا نعرف للشافعي غير مسند خامل الذكر برواية الأصم وما رواه الطحاوي من سنن يغلب بعض من العلماء أنها من مستخرجات تلاميذه. ولتلاميذ أبي حنيفة دفاع مستميت أكدوا فيه تقديمه الحديث على القياس دون أن ننكر أن الإمام وضع شروطاً أكثر من غيره لقبوله كأن لا يكون فيما تعم به البلوى مخالفاً للسائد، وألا يكون في العقائد ولا موجبات الحد، وهي شروط لا تخلو من منطقية لكنها بحال لا تعني أن الإمام تخلى عن اعتماد خبر الواحد دليلاً!، ومن العجائب أن الكاتب يعيب على الشافعي تبني القياس أصلاً ويقول بالحرف: ” ثم ضيق الشافعي الدائرة أكثر بالقول بالقياس” وهنا نتساءل هل كان الشافعي أول من سن القياس ونصبه دليلاً؟..كلام عجيب فالشافعي في الحقيقة أضيق الأئمة الأربعة عملاً بالقياس لميله إلى اعتبار تخفي العلل وأنها قد لا يتبادر الذهن إلى جميعها ولهذا كان مثلاً يرى أن تخرج زكاة الفطر طعاماً، والزكوات من أعيانها لا بقيمتها بخلاف أبي حنيفة!..وأبو حنيفة هو سيد القياس بلا منازع، أما كيف يكون القياس سبباً لتضييق الدائرة [ربما أراد دائرة الاجتهاد] فيظل أمراً غامضاً لا يفصح عنه الكاتب بيد أنه يقرر أن قياس الغائب على الشاهد يغفل تغير الظروف والأزمنة، ولا أدري من جاء هذا التلازم؟.. إن دراسة الواقع وتغيراته أمر معتبر جداً في مباحث تحقيق المناط ولا يلزم من اعتماد العلة المناسبة وهو معول القياس رد العلل التي لم يشهد الشارع لها وهو أصل القول بالمصالح المرسلة، وهي في حقيقتها قياس يقوم على جنس المصلحة لا عينها ومن ضرب حمل الجزئي على الكلي[1]، فالاختلاف في الدرجة، ولهذا تندرج في بعض المؤلفات في مباحث العلل والأقيسة. والذين قالوا بالمصالح المرسلة وأشهرهم المالكية يقولون بالقياس دون أي تناقض في موقفهم، أما من يدعي لزوم إقفال أوجه الاجتهاد الأخرى من مجرد الأخذ بالقياس فمثله كمثل من ادعى أن الاعتراف  بالطب البديل يلزم منه عدم الاعتراف بالطب الحديث!..على أن تتبع فقه الشافعي يؤكد عمله حتى بالمصالح المرسلة،   وهو أمر بات اليوم من المسلمات العلمية .

لن أتعرض كثيراً لدعاوى الأيديولوجية التي جعلت نخة للتنقيص من موضوعية الإمام، إذ لم يسق الكاتب ما يبرر هذا الادعاء وأن الشافعي كرس للعروبة بمعناها العنصرية، ثم القرشية ليدعم السلطة النافذة، وقد أخطأ الكاتب حين نسب الشافعي إلى بني هاشم، ليجعله موالياً لبني عمه العباسيين، والخطأ من ناحيتين الأولى أن الشافعي من بني المطلب بن عبد مناف، وهو عم عبد المطلب بن هاشم، أي يتساوى مع الأمويين في القربى ببني هاشم تماماً، وهذا أهون الخطأين، أما الناحية الثانية فإن البيت الهاشمي نفسه كان منقسماً إلى طالبيين وعباسيين، والمعروف عن الشافعي موالاته للطالبيين حتى اتهم بالتشيع، وحتى سيق للرشيد من صنعاء في تهمة موالاة للعلويين كادت تطيح برأسه. وهناك خطأ ثالث مواز وهو أن الدولة العباسية بخلاف الأموية لم تكن ذات صبغة ونعرة عربية كما يتوهم الكاتب بل كانت تسمى دولة العجم من فرط هيمنة الفرس على إدارتها وثقافتها. كما قلت لا أريد الإسهاب في رد فرية التوجه الإيديولوجي لأن الكاتب لم يأت ببراهين لنفندها وإنما هو كيل جزاف من التهم التي تقع خبط عشواء.

أما العبارة التي بات الحداثيون اليوم يسخرون منها بحسبانها من إرث الظلامية الفكرية والغائلة التكفيرية : (إنكار المعلوم من الدين بالضرورة) والتي نسبوا إلى الشافعي ابتداعها، فهي بعكس ما يظنون مما يحد من التطرف في التكفير، لأن كل ما لا يعلم من الدين بالضرورة – وهو الأقل كماً بكثير- لا يتيح فرصة لتكفير المسلم، أما إن أراد هؤلاء ديناً بلا أسس يتهاوى مفهومه بانخرامها فتلك ورطة منهجية كبيرة إذ كل دين بل وكل فلسفة لا تقوم على أرضية من المسلمات فهي بناء متهافت لا يصلح أن يقدم كفكر حقيقي، وبالتالي فإن التكفير في ذاته ممارسة علمية دقيقة لا ينبغي أن تترك للعابثين، وهنا نعني بالتكفير التهمة بالخلل في شروط الانتماء للفكرة أو النظرية، فمعيار ما هو من ضرورات الدين بيد الأئمة المجتهدين إلا تلك الكفريات الصريحة كسباب الأنبياء، فالمجتهدون هم الأقدر ليس على إلصاق التهمة وهو أمر ثانوي، بل على تبرئة من يتهمه الجهلاء بالكفر.

لطالما ظلم كتاب اليوم أسلافنا الكرام باسم المنهجية والموضوعية، ولكن أخشى على هؤلاء مغبة العجلة والتقليد لأقلام مرت على التراث من عل مر الكرام ولم تجب أهاضيمه وشعابه، ثم لم تلبث أن شرعت في تحطيمه، فقط من أجل التحطيم لا لغاية أخرى، وتحطيم حتى رموزه بعبارات تدخل في دائرة التكفير الذي يفرون منه فالشافعي عند د. عامر قد جاء بدين آخر مواز لدين محمد صلى الله عليه وسلم؛.. عبارة تبدو ناعمة لكنها تحز كالموسى،.. وربما كان لحديثنا بقية.

[1] ينكر الإمام الغزالي وجود مصلحة لم يشهد الشرع لجنسها، وبالتالي فلا يوجد في الواقع مصلحة مرسلة بالمعنى الدقيق

[i] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، ت: أحمد شاكر، دار الفكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى