مقالات

الإبــــــــــــــــــداع

أ.د. عزيزة سليمان علي[*]

مع الازدهار الأدبي والعلمي والتكنولوجي وثورة الاتصالات ووسائل الإعلام، لا يفقدنا التواصل، ومن ثم إلى تقزيم حكمة الشباب والآباء والأجداد وانسحابهم، واندثار  العديد من أفكارهم، ومن ثم السعي إلى تغييبها وتهميشهم عن مسرح الأحداث الحياتية، بحجة أنهم “دَقَّة قديمة”، أو لم يعودوا ذوي صلة بالعالم والمجتمع، او بأي سبب كان. فهل هذا جهل أم أن هذه التحديات قد لا تكون حقيقة وقد تكون، فإذا كانت تصورات وأفكار تنتاب الإنسان بسبب تعرضه لموقف من المواقف، فإنها لا تمثل حقيقة، وبعض التحديات تواجه الإنسان، وهنا يحتاج إلى أن يصبر أو يغير الوضع كي يتغلب على هذا التحدي، كالمرض  والاكتئاب والعزلة والشك والتوتر واضطرابات النوم وتغير الوزن (زيادةً ونقصاناً)، والشعور بالذنب، وفقدان القدرة على التركيز والإحساس بالكسل وعدم الأهمية، والتفكير في الانتحار.

منبع الإبداع يتمركز في  كل من المخ والعقل والدماغ, الدماغ هو أهم أجزاء الجهاز العصبي المركزي، تتجمع فيه المعلومات ويحللها ويدير معظم أعضاء الجسم، بينما المخ هو جزء من أجزاء الدماغ، حيث يتكون دماغ الإنسان من المخ والمخيخ والبصلة السيسائية. ويدير المخ الوظائف المعرفية والحسية والعقلية ووظائف اللغة. العقل هو عملية وصف للأنشطة والوظائف العليا في الدماغ، خاصة تلك الوظائف مثل الشخصية، التفكير, الجدل, الذاكرة والذكاء. والعقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان.

نجد المبدعون يتربعون في أعلى المقامات  في مختلف المجالات السياسية, الاقتصادية, الثقافية والاجتماعية. وخبراء علم النفس يقولون أن الإبداع ليس له عمر، حيث يبدع الإنسان حتى حين يبلغ أقصى العمر. ذلك لأن الإنسان يصبح أكثر نضجاً لمرور العقل بالكثير من التجارب والخبرات، كما أن الحياة تتسم  بالوعي الإنساني والفلسفة والخبرة، حينها سيكون الإنسان أكثر غزارة في عطائه، حتى لو كان في العمر أرذله، لذلك لا يتوقف عطاء المبدع كل ما تقدم في العمر، بل سيتطور بشكل دائم لاتساع مجال الخبرة والخيال. ومن الملاحظ أن معظم المبدعين الكبار كان إنتاجهم في الفلسفة والأدب، والكثير منهم اتجه لمنحىً آخر مع تخصصهم أم بدونه، والأمثلة كثيرة  خاصة في مجال الطب حيث توجه الكثيرون منهم إلى الأدب والثقافة.

هناك رابط خفي يشد العلوم والفنون إلى بعضها، وأمامنا امثلة كثيرة من الأطباء اخترقوا مجال الأدب وأصبحوا بارعين فيه. اتصور ان يكون السبب هو الإنسانية والبراعة والخبرات الثرة، وربما لتحييد الضغوط النفسية الشديدة التي تواجه الأطباء. الكثيرون منهم أثروا الحياة الثقافية إنتاجهم الفكري والأدبي. فالنضج العقلي والخبرات والتجارب الطويلة تؤهل المسن لتعزيز حياة إبداعية. فالعقل المبدع هو الذي ينشغل ويسعى ويفكر كثيراً ويغوص في أعماق شخصية وسيكولوجية الإنسان.

في ما يختص بعلاقة العقل بالإبداع، أود أن أوضح بأن الإبداع موضع دراسة منذ أكثر من 60 عاماً، ومنذ بداية سنوات القرن الحالي أخذ علماء الأعصاب بالاهتمام بهذا الموضوع، وأعتقد أن الإبداع جانب مهم من الإدراك مثله مثل الذاكرة، الانتباه، أو الإدراك الحسي.

إن الإبداع  يمكن ان يظهر عند الانسان في كل مراحله، لكنه يصل للذروة  بتراكم الخبرات والتجارب مع تقدم العمر، خاصة في المجال الفلسفي. أما الشباب ومتوسطي العمر، فعبقريتهم تظهر في مجال التكنولوجيا والعلوم. العلماء قاموا  بدراسة سيرة العباقرة  واستنتجوا  بأن المبدعين بمتوسط العمر عندما يصل إبداعهم إلى ذروته, تتفاوت بشكل كبير بين الشعراء والعلماء والموسيقيين وأساتذة الرياضيات. أيضا التنحي الإجباري عن العمل  يكون مرغوباً، بالنسبة للأعمال التي تتطلب قدرات فيزيائية، ولكنه مرفوض بالنسبة للتخصصات العلمية والعقلية، وإن بدا على كبار السن بعض نقص في الذاكرة والتركيز، تجدهم يبقون بموهبة العمق في التحليل والاستدلال.

من صور الإبداع أنهم  يلمحون ويرون المعهود بوتيرة غير مطروقة، فمن لديه طاقة عقلية هائلة تمكنه من استمرارية ابداعهم إلى ارزل العمر يكون ذا فائدة حقيقية للإنسانية فهم يأتون بالحديث وبإعادة تقديم القديم بصورة جديدة أو غريبة. ومن أشهر  المبدعين هو العالم الفرنسي لامارك، كتب مصنفه التاريخي في علم الحيوان “التاريخ الطبيعي للحيوانات الفقارية” وهو في العقد الثامن من عمره. ورغم أن توماس أديسون أخرج أكثر من ألف اختراع، إلا أن أعظم إنجازاته أتت في السنوات الأخيرة من عمره، والفيلسوف (كانت) أخرج ثلاثة مؤلفات عظيمة في الأنثروبولوجيا والميتافيزيقا والخلق بعد تجاوزه سن السبعين…

المجالات يطرقها الإنسان بمحض الصدفة ولا تكون مبرمجة في ذهنية الشخص كأي مهنة اخرى، لا يوجد شخص  يختار أن يكون اديباً، حيث لا يجني الأدباء  كثيراً من المال، بالرغم من ان الكتابة تعزز من وعي البشر وترتقي بأفكار شعوب بأكملها  بقضايا التحرير، والكُتَّاب هم الشموع التي تضيء الطريق  لشعوبهم ، أما بعض المهن كمهنة الطب مثلاً، والتي تعتبر مهنة إنسانية نبيلة، وضرورة حياتية لكل الناس لا يمكن الاستغناء عنها , فدخل الكثيرون مجال الطب ثم تحولوا منه إلى الكتابة الأدبية بعد اكتشاف مواهبهم وقدرتهم على الإبداع فيها، وقسم منهم زاول الكتابة مع ممارسته مهنة الطب، وهناك عدد من المشاهير الأدباء  الذين درسوا الطب بدايةً ثم وجدوا في الكتابة غايتهم المنشودة، فتوجهوا إليها وتركوا الطب. ومن الأمثلة د. مصطفى محمود الطبيب الكاتب المفكر المصري المعروف، الذي درس الطب وتخرج منه بدرجة التفوق، وتخصص في جراحة المخ والأعصاب، كان نابغة في الكتابة الأدبية وأخيراً  تفرغ للكتابة. والأمثلة كثيرة أيضاً بين الأطباء السودانيين ومنهم التيجاني الماحي، د. عبد الرحمن موسى ود. محمد عبد الحليم ..

يتساءل الكثيرون عن سبب  عدد كبير من الأطباء أصبحوا أطباء بارعين ومازالوا يمارسون مهنتهم الإنسانية في شيخوختهم، علماً بأن ظاهرة الأطباء الأدباء أصبحت ذات شأن في أوساطنا الثقافية, وأصبحت كتاباتهم  صنفاً  خاصا من صنوف الفنون والأدب, وأصبحت لمساتهم ومصطلحاتهم الطبية ذات آثر واضح في أعمالهم الإبداعية والتثقيفية.

برغم أن الدماغ يتعرض لتغيرات بنيوية وفيزيولوجية في الكبر، إلا أن هذا التغيير لا يؤثر على  عبقرية المسنين. ربما  يصابون بتناقص في  التركيز والذاكرة، إلا أن ذلك لا يمنعهم  من العطاء  بأفضل إنتاجهم في أعمار متقدمة نسبياً، وكل هذه النماذج تؤكد أن النضج العقلي والخبرة العملية يلعبان دوراً أساسياً في العبقرية والإبداع.

[*] استشاري الطب الباطني القلب وطب الشيخوخة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى